في ساحتنا، أو بتعبير أدق، في البقعة الجغرافية التي تضمنا وإسرائيل، يقع نوعان من التصعيد، الذي سيفضي، لا محالة، إلى تداعيات خطرة لا نستطيع اليوم رؤيتها على وجه الدقة، بسبب طريقة صناع القرار في الإقدام على إجراءات حاسمة بشأنها.
النوع الأول من التصعيد هو الإصرار الفلسطيني على التوجه إلى الأمم المتحدة، على الرغم من التحذيرات الإسرائيلية والأميركية وعدم الرضا الأوروبي، وسيبلغ هذا التصعيد ذروته في سبتمبر (أيلول)، وستكتمل صورته في الأيام التالية على ضوء طبيعة الرد الأميركي السياسي والاقتصادي وكذلك الرد الإسرائيلي الميداني الذي يجري التهديد به دون أن نعرف، على وجه الدقة، كيف سيتم تجسيده عمليا على أرض الواقع.
النوع الثاني من التصعيد هو العمليات اللافتة التي وقعت في إيلات، وعلى الرغم من إنكار حماس علاقتها بها، أو علاقة غزة بالإجمال بفاعليها، فإن إسرائيل تصر على تحميل غزة مسؤولية هذا التصعيد، مما يجعلها طليقة اليد في أمر الإجراءات العسكرية التي تتخذها؛ حيث تقول إسرائيل: إن ما تم حتى الآن من قصف واغتيال ما هو إلا رد فعل أولي على عمليات إيلات وما تبقى مقبل لا محالة.
إذن نحن أمام تصعيدين لافتين في هذه الحقبة المتزامنة مع ما اصطلح على تسميته الربيع العربي، وبوسعنا قراءة حسابات الأطراف الثلاثة التي سجل هذا التصعيد بأسمائها، وهي: السلطة الفلسطينية، صاحبة قرار الذهاب إلى الأمم المتحدة، وحركة حماس، المتهمة «عضويا أو موضوعيا» بعمليات إيلات، ثم إسرائيل التي تجد نفسها في مواجهة هذين التصعيدين المتزامنين مع تصعيد داخلي عبر الاحتجاجات الواسعة، وهذه المرة ليست على خلفية تطورات أمنية وسياسية، وإنما على خلفية مختلفة، وهي الأزمات الداخلية مثل البطالة والسكن والغلاء... إلخ.
السلطة الوطنية تواصل الحشد السياسي والإعلامي في أمر الذهاب إلى الأمم المتحدة، معلنة بصريح العبارة أنها تفعل ذلك من أجل الضغط، ولو على طريقة حافة الهاوية، كي يأتي العالم في اللحظات الأخيرة لاسترضائها بمحفزات منطقية تجيز لها العودة إلى المفاوضات بأقل قدر ممكن من الأثمان، أو بما يسمى في السياسة عادة «حفظ ماء الوجه». إلا أن السلطة، التي تسبح مع تيار موات، قوامه التأييد المضمون من قبل ما يربو على 120 دولة، ستجد نفسها في سبتمبر في وضع من لا يستطيع التراجع أمام أي صيغة، وستدخل في مرحلة شديدة الصعوبة بعد سبتمبر، قوامها أنها ستجد نفسها، ربما لأول مرة، في حرب باردة مع الحلفاء الأميركيين الذين سيضيق هامش مناوراتهم كلما توغلوا في الزمن نحو الانتخابات الرئاسية المقبلة.. وبالتالي فإن احتمالات تعمق المأزق تبدو أقرب من احتمالات الخروج منه.
أما بالنسبة لحماس، التي يقول المنطق البديهي والبسيط إنها غير معنية الآن بتصعيد عسكري وهي تتفاوض بشأن شاليط، وتراقب ما يجري في مصر وتتخوف مما سيحدث لها في سوريا، فستجد نفسها الآن مسؤولة عن تصعيد خطر تم دون علمها، مثلما تجد نفسها عنوانا لأزمة استراتيجية بحكم المكان حيث مثلث برمودا الخطر، الأردن – مصر – إسرائيل؛ ذلك أن إيلات ليست سديروت، وردود الفعل على ما يحدث فيها ليست هي ذاتها ردود الفعل حين تكون العملية العسكرية صغيرة أو كبيرة على القشرة باتجاه الشمال.
إن حماس، الآن، واقعة تحت مرمى النيران الراهنة والمحتملة لإسرائيل، ولعل تصفية حساب أوسع يجري التخطيط لها وقد يكون العامل الأهم في تنفيذها هو اختيار التوقيت ليس إلا.
أما إسرائيل، التي أخافت نفسها كثيرا من التصعيد السياسي الفلسطيني بالذهاب إلى الأمم المتحدة وتتابع، بحذر شديد، تطورات الأمور في مصر بعد سقوط مبارك وفي سوريا، حيث المؤشرات المقلقة من النواحي كلها، فإنها الآن تفكر وتعمل على النحو التالي:
فيما يتصل بالتصعيد السياسي الفلسطيني في سبتمبر، فإنها ستواجه الأمر ببلورة احتشاد نوعي لصالحها يقف في مواجهة الاحتشاد العددي الذي أمنه الفلسطينيون، وتعتمد، حين تصل الأمور إلى حافة الخطر، على الفيتو الأميركي المضمون الذي يبدد الجهد الفلسطيني ويجعله عديم المحصلة المادية على أرض الواقع، مع استخدام الإصرار الفلسطيني المنطقي على مواصلة معركة الأمم المتحدة كذريعة لإطلاق يدها في سياسة عقابية متدحرجة، وهي تعرف جيدا ما يوجع الفلسطينيين، خصوصا معسكر الاعتدال منهم.
أما على الصعيد العسكري، فإسرائيل، التي قتلت، حتى الآن، ضعف ما قتل منها تحت عنوان رد الفعل الأولي، ماضية في الحفر تحت غزة وحولها، وماضية كذلك في مخاطبة مصر بلغة التحذيرات الناعمة التي تبطن ما تبطن من نوايا قد تصل حد تغيير واقع الحدود معها بعد أن شرعت الآلة الدعائية الإسرائيلية في تصوير الحدود الجنوبية، كما لو أنها حدود سائبة، وأن الخطر الإرهابي الجوهري مقبل من هناك وليس من أي مكان آخر، ويتعين على مصر – الثورة – أن تتصرف، فهي المسؤول الأول والأخير عن سيناء.
خلاصة القول: إن الصورة الراهنة على الساحة الفلسطينية - الإسرائيلية أشبه بمرجل يغلي، وما يحدث الآن هو بعض البخار المتسرب منه، وبديهي ألا يكون بمعزل عن الغليان المتصاعد في المنطقة كلها، وحجر الزاوية الآن هو سوريا ومَن وراءها ومعها، وإذا كانت قوانين الطبيعة تحتم الانفجار في وقت ما للغليان داخل المرجل المغلق فإن قوانين السياسة تملك هامشا ضيقا للغاية لتفادي الانفجار، ولعل التنفيس هو أفضل طرق المعالجة إلى أن يحتاج طرف نافذ إلى انفجار كبير وساعتها ستتغير أشياء كثيرة.