محمود درويش: أحسب أن حدود الوجود هي الكلمات

TT

بعد مرور ثلاث سنوات على وفاة محمود درويش، يمكننا أن نستشعر أكثر من أي وقت مضى أنه ما زال يحيا بيننا. إنه حي في ميدان التحرير في القاهرة، وفي ميدان العاصي في حماه... ما أود أن أقوله هو أنه، بصورة ما، فإن عالم درويش ليس قائما فحسب، وإنما يتسع نطاقه أيضا يوما بعد يوم. لقد خلق الله جل وعلا الوجود، لكن الوجود يتسع لحظة بلحظة. «وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ» (الذاريات: 47).

لكل شخص تعريفه المحدد للحياة، ولكل شخص رؤيته الخاصة ومقصده. بعض الرؤى تتطور وتوسع حدود عالمهم، غير أن بعضها الآخر لا يتطور بدرجة كبيرة. العالم يتقلص، ليصبح أصغر فأصغر بمرور الوقت. سأعطيك مثالا. يسعى الأطباء في المعتاد إلى إطالة عمر الناس، بينما تزيد أفعال الحكام القتلة معدل الوفاة. المسؤولية الأساسية التي يضطلع بها القذافي والأسد هي قتل شعوبهما وتدمير منازلهم. إن مهمتهما أسوأ من مهمة الشيطان. لقد قيل إن: «إبليس ما يخربش بيته!».

ظن هتلر أنه يؤسس عالما جديدا باستخدام وحدات القتل المتنقلة. لقد تخيل أن العالم من دون اليهود والشيوعيين سيكون أفضل. ماذا كان جوهر عالمه؟ رد بصراحة شديدة: «سيلج الجمل في سَمّ الخياط قبل أن يتم (اكتشاف) رجل عظيم من خلال عملية انتخابية». ويعني هذا أنه إذا وُضعت آراؤه موضع التنفيذ فسيصبح البشر مجردين من كل حقوقهم. كان الناس - اعتمادا على وجهة نظره - ملائمين للعمل بمهام مثل قاطعي أخشاب وسقائين.

محمود درويش، مثلما يروي إميل حبيبي في روايته «المتشائل»، وسع نطاق عالمنا الواقعي. ثمة اختلاف حقيقي بين العالم قبل درويش والعالم بعده. دع الساسة يقولون إن العالم تغير بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول). لدينا الكثير من العوالم! وفي الوقت الذي يمكن أن يتغير فيه عالم السياسات بفعل بن لادن، فإن العالم الحقيقي لن يتغير إلا بالكلمات. لهذا، يقول درويش:

«أحسب أن حدود الوجود

هي الكلمات»

يمكننا أن نرى أنه مع كل كلمة يتفوه بها، يوسع نطاق العالم. على سبيل المثال:

«كتبت عن الحب عشرين سطرا

فخُيّل لي

أنّ هذا الحصار

تراجع عشرين مترا»

ومن خلال كل كلمة قالها درويش، خلق مساحة جديدة للحرية وتنمية براعم الإنسانية. على الجانب الآخر، مثلما يقول درويش، هناك حاكم مستبد تساوره المخاوف من الكلمات والأفكار، لذلك يشيد السجون!

يقول محمود درويش:

«وساويت بين المثقف والمرتزق

(وأمّا بنعمة ما أنعم الحكم – حكمي - فحدّث)

ألم أبنِ خمسين سجنا جديدا لأحمي اللغة

من الحشرات ومن كل فكر قلق؟»

يمكنك أن ترى أن هناك عالمين. الأول هو عالم درويش، والآخر هو عالم الحاكم المستبد. العالم الأول يتسع نطاقه، أما العالم الآخر فيضيق نطاقه. ونتيجة لموقف درويش، بدأ عالمه بكلمات. على الجانب الآخر، يبدأ عالم الطاغية بسفك الدماء. الحب هو محور عالم درويش، أما الكراهية فهي محور عالم الحاكم المستبد الطاغية. إضافة إلى ذلك، فإن الحاكم المستبد يعتقد أنه محور العالم، وأن الشعب وبقية العالم يدور حوله.

«وفى البدء.. كنت.. وكونت هذا الوطن

ليعبد خالقه، أو يموت إذا لم يكن لائقا

بعبادة خالقه»

كان القذافي يقول: «إذا لم تريدوني ولم تطيعوني، فسأقتلكم». ونتيجة لموقفه الحالي في الدول الإسلامية، أكثر من أي وقت مضى، أشعر أن درويش ما زال على قيد الحياة. ما زال بإمكاننا أن نرى عينيه الزرقاوين العميقتين المغرورقتين بالدموع. ولا يزال باستطاعتنا سماع صوته الموسيقي القوي، وهو ينشد أعظم قصائده.

الشاعر، الذي كان يجوب الدول والمطارات حاملا حقيبة سفره ومسطرا قصائده، كان يوسع حدود عالمنا. كان يوسع حدود وطننا. في عالمنا الحالي، دمرت القوات الإسرائيلية بارفا وشيدت قرية جديدة بدلا منها. لكن بارفا لا تزال حية، إنها حية في «سفر نامة» لناصر خسرو، وفي قصائد درويش، وفي رواية إميل حبيبي، نحن نواجه بارفا حقيقية.

ليس فقط في البداية كانت الكلمة، مثلما قرأنا في إنجيل يوحنا، وإنما أيضا في النهاية، ستظل الكلمة باقية.

هذا هو الموقف الحقيقي والمميز والمسؤولية الأساسية للشاعر والروائي أو الفنان الممثلة في ابتكار عالم جديد. كلهم يحاولون توسيع حدود العالم بأساليبهم الخاصة. إن حدود اللغة واللون، وغيرها من الحدود، كلها حدود تقيد عالمنا.

لقد وسع فنانون أمثال فان غوخ ورمبرانت حدود عالمنا. وحينما أنهى مايكل أنجلو نحت تمثال موسى، بدأ يتحدث من خلاله. كان وجه موسى صارما، وكيانه بأكمله مفعما بطاقة انفعالية وروحية مكبوتة. كان موسى يجلس على كرسي مرتديا زيا ينتمي إلى العصر الكلاسيكي الجديد، ومتلهفا للتفتح على الحياة. بدت عضلاته منفوخة وتدلت لحيته الطويلة، وبرز قرنان من رأسه. وأسفل ذراعه اليمنى توجد الوصايا العشر. فجأة قال مايكل أنجلو: «هيا يا موسى قف»! يعني هذا أن العالم كان فسيحا رحبا. ثمة شيء ما أضيف إلى العالم. من يمكن أن يتخيل أن مايكل أنجلو وسع حدود عالمنا بتمثال حجري؟! وسع درويش حدود العالم بالكلمات. والكلمة هي أكثر العناصر تأثيرا.

لهذا، تشكلت الديانات الإبراهيمية مثل اليهودية والمسيحية والإسلام كافة من كلمات مقدسة. وفي العقدين الأخيرين من حياته، ركز درويش على بنية الآيات القرآنية وموسيقاها. لا أقصد أنه استخدم بعض الآيات القرآنية في أشعاره. على سبيل المثال، عند نظري لاقتباسه الآية الثالثة من صورة يوسف في قوله:

«أبتي..

هل جنَيْتُ على أحد عندما قُلْتُ إنِّي:

رأَيتُ أحد عشرَ كوكباً

والشمس والقمرَ

رأيتُهُم لي ساجدين؟»

أشعر أن حدود العالم تتسع. لقد ربط درويش ببراعة بين أبي العلاء المعري وسورة يوسف. أعني أنه يمكننا تبين جوهر موسيقى الآيات القرآنية في أشعاره.

القصيدة الأخرى هي دمشق. وفيها، يقتبس آية قرآنية أخرى بشكل رائع في قوله:

«وينشق في جثتي قمر...

ساعة الصفر دقت

وفي جثتي حبة للسنابل

سبع سنابل في كل سنبلة ألف سنبلة»

هذه هي ذروة الكمال! درويش يصوغ قصائد من آلامه ومن دمه. يمكننا أن نشعر بأن روح الفن تنبع من كلماته. ولهذا، لا يزال رسول بارفا حيا، وسيظل حيا أبد الدهر. إن رؤيته ممتزجة برؤية البشر. نحن نتوق إلى إنسان حقيقي، لذا، نجده في كلمات درويش، حينما يتحدث عن أمه قائلا:

«أحنّ إلى خبز أمي»

وعندما نستمع إلى مارسيل خليفة، نشعر بأننا نفتقد محمود درويش. الشاعر الذي وسع نطاق العالم كانت معجزته هي الكلمات.... وفي رواية تحمل عنوان «المتشائل»، رسم إميل حبيبي صورة لدرويش (الشاعر - النبي في روايته) أفضل من أي شخص آخر.

فشاعر البروة قال:

«نحن أدرى بالشياطين التي تجعل من طفل نبيا»

لقد وسع الشاعر الفلسطيني الملهم، بجراحه وآلامه، حدود عالمنا بكلماته:

«أحسب أن حدود الوجود

هي الكلمات»