الربيع الإسرائيلي مزهر ومثمر

TT

استبشرنا خيرا حينما انتقلت عدوى الثورات العربية إلى إسرائيل، قلنا هذه رمية من غير رام، سيثور الشارع الإسرائيلي ويطالب بإسقاط النظام، ثم سيهرول نتنياهو الذي كان في رحلة خارج البلاد ليعود أدراجه إلى تل أبيب، فيجند الجيش الإسرائيلي بكل قوته لقمع المحتجين، سيطلق عليهم الرصاص الحي، ويهينهم بضربهم بالأحذية، وسيرميهم في المعتقلات ويرسل لهم أطفالهم جثثا مشوهة، ثم ستتفكك الدولة العبرية وتضعف وتتهاوى وتستنجد بأميركا ويدب بين قادتها الخلاف فتتحول من قوة مكينة إلى واهنة، وتنتهي القصة الطويلة للجبروت الإسرائيلي دون أن يتحرك رمش عربي واحد.

لكن الفرحة ما تمت، للأسف خذلنا نتنياهو، صحيح أنه انتفض راجعا، ولكن ليس لارتكاب مجزرة بحق مواطنيه، بل لاحتواء الأزمة ووضع حلول سريعة لمطالب الشارع، كان يشعر بالقلق من غضبهم عليه، يقال إنه لم ينم أسبوعا هو ووزراؤه، حيث سهروا الليالي يتدارسون خططا تكتيكية واستراتيجية تلبي طلبات المحتجين، وعندما خشي أن لا يصدق الناس جديته شكل لجنة من الأكاديميين من جامعة حيفا وتل أبيب والجامعة العبرية في القدس، ليكونوا صوته عند الجمهور، وتعهد بأن يوافقهم في كل ما يقترحونه. المحتجون كانوا محددي المطالب، يتهمون حكومة نتنياهو بأنها لم تعزز العدالة الاجتماعية، ولم تراع أن نسبة الشباب في الشعب الإسرائيلي ترتفع مع الوقت، وأن هذا الشباب سيتزوج وسيحتاج دخلا أفضل ومسكنا معقول الثمن، ورعاية صحية متقدمة وخفضا للضرائب.

احتجاجات لا تتعلق بالثورة على الخوف والتنكيل والرعب والتهديد والترويع، بل طمعا في حياة معيشية أفضل. نتنياهو الشرس المستعد لخوض حروب طاحنة فداء لجندي إسرائيلي، والاستيلاء على أراضي الجيران من أجل مستقبل بلاده، اضطر أن يخفض جناح الذل من الرحمة للمواطن الإسرائيلي ويستعطفه طلبا لرضاه، لأنه يعلم جيدا أن هذا المواطن هو من أتى به إلى سدة الحكم وهو من يستطيع أن يسقطه. في سوريا، ويا للعجب، يحصل العكس، بشار الأسد الذي أوشك أن يصيب دباباته الصدأ، لأنها عاطلة عن العمل حركها أخيرا ضد شعبه المطالب بالإصلاح، فأحكم قبضته على كرسي الرئاسة والسوريون من كل المدن السورية يهتفون بإسقاطه.

ولم يكن مستغربا ما نسمعه هذه الأيام من تحليلات سياسية عجيبة، انطلقت من غزة، بأن الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة على رفح التي أودت بحياة 6 فلسطينيين، جاءت عمدا من حكومة نتنياهو لصرف الانتباه عن ثورة الإسرائيليين في الداخل وإشغالهم عن مطالبهم. مع أنها اعتداءات جاءت على خلفية استهداف حافلتين إسرائيليتين في إيلات.

الحقيقة أن نتنياهو رجل يحترم شعبه، طوعا كان أو كرها، ولا يجرؤ أن يخادعهم بمثل هذه الحيل لإثبات وجهة نظره أو للهرب من مسؤولياته، والشعب الإسرائيلي لا تنطلي عليه ألاعيب السياسيين، فهم ليسوا كبعض سكان جنوب لبنان الذين استخدمهم نصر الله دروعا بشرية في حرب 2006 ودمر بيوتهم وقراهم وهم يصفقون لأهازيجه حول المقاومة.

نعم.. صحيح أن اعتداءات إسرائيل على غزة جاءت لتشغل الناس عن الثورة، ولكن أي ثورة؟ ليست ثورة تل أبيب والقدس وعكا وحيفا، بل ثورة حمص ودرعا وحماه ودير الزور. بلا مناسبة هاجم مسلحون مجهولون حافلتين إسرائيليتين قرب إيلات، فقتل 6 إسرائيليين، فحدث ما هو متوقع بأن ترد إسرائيل الصاع صاعين، ومن الطبيعي أن نتنياهو لن يكافئ غزة بحلوى حلقوم بالفستق الإيراني، وعندما يفعل وتضرب غزة بالصواريخ ويتقطع الفلسطينيون الأبرياء أشلاء يستنفر العرب، وينددون، وتصحو جامعة الدول العربية من غيبوبتها لتستنكر وتشجب، حتى الرئاسة الفلسطينية اشتكت لمجلس الأمن الاعتداء الغاشم، مع أننا لم نسمع هذه النبرة العلية حينما دكت القوات السورية مخيم الرمل في اللاذقية، بل يجرؤ عزام الأحمد، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، بأن يقدم أعذارا واهية لهذه الجريمة بأن الجيش السوري لم يكن يستطيع أن يتجنب المخيم، لأنه كان في طريق مروره، فاضطر أن يضعه ضمن العملية العسكرية!

ليت بعض القادة العرب يقلدون قادة إسرائيل في دقة تحديدهم لأعدائهم وكيفية التعاطي معهم، فالإسرائيليون يرون كل من يحاول أن يحرمهم حق الأرض عدوا، فيستعدونه قولا وفعلا، ولكنهم يعتبرون حقوق المواطن الإسرائيلي خطا أحمر. أما قادة سوريا فيرون كل من يهدد بقاءهم في السلطة عدوا، حتى وإن كان مواطنا سوريا، أما أرض الجولان فللأسف.. خط أخضر.

* كاتبة وأكاديمية سعودية

- جامعة الملك سعود