الهراء والدماء والخواء

TT

لا يترك خلفه سوى الهراء والدماء. لا أصدقاء ولا أثر ولا أسف ولا أسى. بدأ، مثل جميع الديكتاتوريين، بإبعاد الذين حملوه إلى السلطة، قتلهم أو شردهم، أو سمح لهم بالبقاء في النسيان، مثل عبد السلام جلود. ثم ألغى الصحف والكتاب واللامعين حتى من لاعبي الكرة. وصار لليبيا، الواقعة ما بين روما ومصر واليونان بآثارها التاريخية، اسم واحد هو معمر ولقب واحد هو القائد. وأقام مسرحا سخيفا رتيبا ثقيل الظل وغلظ اللغة وعفن الرتابة، مؤلفا من خيمة بألوان رديئة وذوق عديم، تسبقه إلى حيث تقوم ناطحات السحاب أو يقوم متحف اللوفر.

اخترع لنفسه عالما في حدود ذوقه وأقام فيه. استكتب المنافقين وصدقهم. واشترى حمقى أفريقيا وفرح بتاجهم. ودخل القمة العربية الأولى حاملا مسدسا ثم راح يبسط ثقافة القتل والاغتيال في البر وفي الجو. كان أهل القمة يتقززون في داخلهم ويتظاهرون بالابتسام. فهم لا يعرفون بماذا سوف يتفوه بعد قليل. ولا يعرفون ما هو المشهد المسرحي، الصفيق والغليظ والقليل الابتكار، الذي سوف يطلع به، تقدمة لكاميرات التلفزيون.

هراء مثير للضحك كان يحوله إلى ملاحم لا مثيل لها. كانت الإذاعة الليبية والتلفزيون الليبي يبثان كل ساعات النهار والليل تحف «الكتاب الأخضر». سجن الليبيين في جماهيرية طغيانية وعذبهم بخطبه وأقواله ثم عمم التعذيب على العالم في قلب الأمم المتحدة، عندما اقتضى الإخراج المسرحي الفاشل أن يحمل ورقة ممزقة كتب عليها أطراف خواطره.

كان يرسل سفراءه إلى دول بسيطة مثل البحرين يطلبون المساعدة المالية للمجهود الحربي الليبي. واعتمد في الكويت حسونة الشاوش، أحد مدبري هجوم فيينا مع كارلوس، سفيرا له، إلى أن طردته الكويت ليقوم بأعماله بين اللجان. وكلف «دبلوماسييه» الأفظاظ مطاردة الهاربين من فظاظة الحياة وبؤسها وقتومها في ليبيا، حيث الصباح «للفجر الجديد» والمساء لخطب الأخ قائد الفاتح العظيم.

بعد انتفاضة ليبيا (أخيرا) ظهر حكم الشعب جليا: سيف الإسلام للسياسة والباقون للكتائب والابنة عائشة لحث المتظاهرين. ووزير النفط الذي فر أخيرا يقول: إن خلال عهده فقط حول سيف الإسلام 250 مليار دولار بتصرفه وحده. ومهما عرفنا فلن نعرف شيئا عن جمهورية تبدو متخيلة في أساطير العته والشر. لقد تعبت ذاكرة الليبيين من التدوين. واهترأت من سأم الغلاظة المسرحية. وها هم يقفون، فرحين وحزانى، أمام أكداس من الخواء والهراء والدماء. ولا شيء آخر سوى النكات الفارغة والغليظة.