إنقاذ سبل المعيشة إنقاذ للأرواح

TT

المأساة الإنسانية الواسعة النطاق التي تحصل الآن في الصومال ومنطقة القرن الأفريقي، بعد أن حصدت إلى الآن عشرات الألوف من الأرواح، يجب ألا تغشي عيوننا عن حقيقة هي أن كارثة أسوأ في طريقها للوقوع ما لم يعالج المجتمع الدولي الأسباب الجذرية للأزمة.

فالعالم يتحمل مسؤولية جماعية لتلبية الاحتياجات الطارئة من الغذاء والتغذية على نحو عاجل وبشكل تام بالنسبة إلى الملايين التي تعاني من المجاعة في يومنا الحاضر، وإلا فإننا نغامر اليوم بتفاقم الأمور نحو الأسوأ بحق ملايين أخرى من بني البشر في الغد ما لم تتخذ إجراءات عاجلة وفورية من أجل الحفاظ على سبل المعيشة بما يمكن هؤلاء الناس من تأمين غذائهم بأنفسهم. وبعبارات عملية، فإن ذلك يعني بالتأكيد تمكين المزارعين ومربي الحيوانات الذين يشكلون 80% من سكان المنطقة من الإبقاء على مواشيهم والبدء بالزراعة لموسم الحصاد في أكتوبر (تشرين الأول) القادم.

ولغرض القيام بذلك لا بد من تزويد المزارعين بالبذور والمدخلات الضرورية والعلف الحيواني والدعم البيطري، وبعكسه فإنه يجري تعريضهم إلى المزيد من الجوع. ولكننا بحاجة أيضا إلى تعزيز قدرات هؤلاء المزارعين في المدى البعيد لمواجهة موجات الجفاف وحالات الطوارئ في المستقبل وذلك بتأمين الدعم لقطاعات الري والبنية الأساسية، فضلا عن تطوير أصناف من المحاصيل المقاومة للجفاف، وذلك عن طريق دعم الحكومات في المنطقة من أجل تنفيذ خططها في المديين المتوسط والبعيد الأجل والتي تم وضعها في نطاق برامج التنمية الشاملة الأفريقية التي يمولها الاتحاد الأفريقي.

فالآن لم يعد هناك متسع من الوقت لتغطية الاحتياجات العاجلة سوى 6 أسابيع تقريبا. ولهذا السبب دعت «الفاو» إلى عقد اجتماع عملياتي رفيع المستوى في الثامن عشر من أغسطس (آب) الجاري لمراجعة الخطط القائمة والنماذج الناجحة من الإجراءات الحالية التي يمكن تطويرها لتمكين المزارعين والمربين الأشد تضررا في المنطقة على مقاومة الأزمة والتعافي منها، بالإضافة إلى المعونات الغذائية والتغذوية الطارئة، إذا ما تم تأمين الموارد الكافية لها.

ولا تزال الاستجابة إلى الآن من جانب الجهات المانحة لأغراض الدعم الزراعي من أجل التخفيف من حدة الأزمة استجابة بطيئة، حيث إن «الفاو» ووكالات أخرى والمنظمات غير الحكومية لم تتلق إلا ثلث المبالغ المطلوبة، حيث إنه ينبغي وعلى نحو عاجل سد هذه الفجوة إذا ما أريد إنقاذ سبل المعيشة وبالتالي إنقاذ الأرواح.

وفي الواقع لو كانت استجابة المجتمع الدولي بوتيرة أسرع وأكثر سخاء قبل أشهر وسنوات مضت لحماية سبل المعيشة وتعزيز قدراتها، لكان في الإمكان تفادي المجاعة التي تهدد حاليا بالانتشار عن طريق الجنوب الصومالي إلى البلاد بأكملها وربما أبعد من ذلك. إنه عار علينا اليوم أن نجد 12.5 مليون إنسان يعانون من كارثة كان بالإمكان الحيلولة دون وقوعها.

وفي أعقاب انقطاع موسم الأمطار في المنطقة منذ أكتوبر من العام الماضي كانت «الفاو» قد أصدرت عدة نداءات لم تحظ أي منها بالاكتراث.

علاوة على ذلك، اقترحت كل من «الفاو» وبرنامج الأغذية العالمي في أكتوبر الماضي بصفتيهما تتصدران فريق الأمم المتحدة للأمن الغذائي العالمي خطة عمل خاصة بمنطقة القرن الأفريقي وبالتعاون مع منظمة «أوكسفام» الخيرية، غير أن تلك الخطة لم تنفذ أبدا بصورة تامة بسبب نقص الدعم المالي.

ومرة أخرى وقبل عقد من الزمن، أي في عام 2000 ترأست أنا شخصيا فريق المهمات لمختلف الوكالات التابعة للأمم المتحدة الذي أصدر تقريرا بعنوان «إزالة انعدام الأمن الغذائي في القرن الأفريقي» وبالتعاون مع الحكومات المعنية. فلو تم تنفيذ التوصيات الواردة في خطة العمل لما كنا سنشهد وقوع الأزمة التي تحصل في يومنا الحاضر.

لذلك وحيث إنه لا عذر اليوم بعد كل ما وقع، لا بد من استخلاص الدروس المهمة.

ومن بين تلك الدروس الرئيسية هو أن المسألة أرخص بالتأكيد من حيث الأموال ومعاناة الإنسان بالنسبة إلى المجتمع الدولي لو تم استباق حالات الطوارئ الإنسانية بدلا من التعامل معها كأزمة كما نضطر إلى القيام به الآن.

ويتمثل ذلك في الحصول على الأموال المطلوبة في أوقات أفضل، أي قبل فترة طويلة من مشاهدتنا لصور الأطفال النحيلة مثل الحشرات وهي تغزو شاشات التلفزيون ببطونهم المنتفخة. وبطبيعة الحال، فإن الأمر يتطلب هنا النظر في الاحتياجات في المديين المتوسط والبعيد من أجل الحفاظ على سبل المعيشة وأرواح بني البشر.

وبعد كل ما تقدم ذكره، فإني أرحب بمبادرة الاتحاد الأفريقي في الدعوة إلى عقد مؤتمر رفيع المستوى للقادة الأفارقة والوكالات المعنية بالمعونات في أديس أبابا بإثيوبيا في الخامس والعشرين من أغسطس الجاري لجمع الأموال بهدف حل الأزمة.

إن هذا القرار الذي يقف وراءه المجتمع الأفريقي الواسع إنما يؤكد أن البلدان المشاركة فيه بشكل مباشر هي الأداة الدافعة للرد على الأزمة ومواجهتها كما تم الاتفاق عليه في اجتماع روما الطارئ الذي نظمته «الفاو» في الخامس والعشرين من يوليو (تموز) الماضي بناء على طلب من الرئاسة الفرنسية لمجموعة العشرين.

ومن المؤمل أن تبدي الجهات المانحة سخاءها بأنفسها إزاء الصومال والبلدان المتأثرة الأخرى، ولا سيما خلال هذا الشهر المقدس من رمضان المعروف تقليديا بأنه شهر الأفعال الخيرية.

وإني إذ أصلي أيضا بأن تدفع مأساة القرن الأفريقي بالمجتمع الدولي من أجل تسخير موارده الضخمة في غضون الأسابيع والأشهر المقبلة بما يسهم في إزالة مصطلح المجاعة من مفردات اللغة الحديثة وزجه في مزبلة التاريخ التي يعود إليها.

* المدير العام لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو)

* مقال خاص بـ«الشرق الأوسط»