سفينة العالم الحائرة

TT

سنغافورة - لم يكن مطلب وجود قيادة عالمية بالقدر ذاته من الأهمية التي هو عليها الآن، فقد ضل العالم طريقه وهو يحاول إيجاد مخرج من الأزمة الحالية؛ فأميركا تنهار، وأوروبا تتقوض، ولندن تحترق، وفقد الربيع العربي وجهته، ولا تزال الهند والصين مشغولتين بقضاياهما الداخلية.. وإذا ما كانت هناك فرصة لقيادة عالمية للتقدم، فهذه هي اللحظة المناسبة. إذن، لماذا لم تبرز قيادة عالمية إلى الآن؟

أولا، تغير العالم من الناحية البنيوية، في الوقت الذي لم تتطور فيه أنظمتنا لإدارة الشؤون العالمية لتواكب هذا التغير. في السابق، عندما كان ملايين من الأفراد في العالم يعيشون داخل دول مستقلة كانت أشبه بمحيط من القوارب المستقلة؛ ومن ثم، خلق النظام العالمي لما بعد الحرب قواعد لضمان عدم تصادم هذه القوارب، وخلقت قواعد للتعاون.

حتى الآن، يسير هذا الترتيب بشكل جيد، فلم تقع حرب عالمية ثالثة في أعقاب الحربين العالميتين الأولى والثانية، لكن المليارات السبعة الذين يعيشون في عالم اليوم لم يعودوا يعيشون في قوارب منفصلة، فكل وزارة فيها إدارة تدير شؤونها، والقارب ككل يمضي دون قائد أو طاقم.

لقد أنشئت مجموعة العشرين في السابق لتقدم القيادة العالمية، في ذروة الأزمة المالية الأخيرة، وقد التقت المجموعة في لندن في بداية عام 2009 لإنقاذ الاقتصاد العالمي، بيد أنه مع تراجع الأزمة تراجع قادة مجموعة العشرين إلى قاربهم مرة أخرى. وما زاد الأمر سوءا، تعنت بعض الدول، ولعل المثال الأبرز على ذلك الولايات المتحدة.

ربما يكون المرشح الأفضل لقيادة العالم، بطبيعة الحال، هو باراك أوباما، إذ لم يحصل زعيم عالمي على القدر نفسه من التغطية الصحافية التي نالها باراك أوباما، لكنه لا يملك الوقت لإنقاذ العالم، فقد احتجزت مجموعة صغيرة من أعضاء حركة «حفل الشاي» المتحمسة في الكونغرس الولايات المتحدة رهينة.

وخلال الشهور الأربعة عشر المقبلة سينبغي لأوباما التركيز على إعادة انتخابه. لن يكترث العالم. من المحزن أنه ما من زعيم أوروبي مستعد لشغل هذا الفراغ. كما أنه لا يوجد قائد صيني أو هندي راغب في شغل هذا الفراغ. وسيواصل قارب العالم الإبحار والسير على غير هدى خلال الشهور المقبلة.

السبب الثاني في عدم ظهور زعيم عالمي جديد هو أن الجغرافيا السياسية للعالم تتقاطع مع جغرافيته الاقتصادية، فالجغرافيا الاقتصادية تتطلب إجماعا، فالدول تتوحد. وفي الجغرافيا السياسية مررنا بتحول القوة العظمى التي شهدناها على مدى قرون، فشهدنا تحول القوة من الغرب إلى الشرق.. وقد شكل كل ذلك اضطرابا عميقا لدى القوى القائمة، فهم يرغبون في التعلق بالمميزات المكتسبة من الأيام السابقة للمجد.

هذا فقط يمكن أن يفسر عجلة أوروبا في استعادة قيادة صندوق النقد الدولي الذي أقيل منه دومينيك ستروس - كان. وما من شك في أن كريستين لاغارد مديرة ذات كفاءة، لكن هل كان من الحكمة أن تتعلق أوروبا بالامتيازات القديمة في ظل تحول القوة؟ وهل من الحكمة اختيار شخص غير اقتصادي لإدارة أهم منظمة اقتصادية عالمية في وقت الأزمة الاقتصادية؟ ربما تكون أوروبا الآمنة قد تنازلت عن السلطة عن طيب خاطر، في حين تعلقت أوروبا غير الآمنة بالامتيازات.

ثالثا: القيادة السياسية دائما ما تسبقها قيادة فكرية.. فخلال قرون عديدة كان المفكرون الأوروبيون يقدمون القيادة الفكرية، وقد حرصوا على تثقيف العالم عن طيب خاطر بشأن ما ينبغي أن يجري. واليوم ضلوا طريقهم تماما.

وبصفتي آسيويا، اعتاد معلميّ من الغرب على أن يتحدثوا عن عدم قدرة الشرق على كسر التقاليد، واليوم يبدو أن النخبة الأوروبية المثقفة لا تجرؤ أيضا على كسر تقاليدها. ومن المؤكد أنه بعد الدمار الذي أحدثته حركة «حفل الشاي»، كان السؤال الواضح، هل أصبح الديمقراطيون عاجزين حقا؟ هل شكلت جماعات المصالح الخاصة الأجندة العالمية؟ هل ينبغي تسريح البعض منهم؟

ما يثير الأسى أن تصبح معالم الخطاب الفكري في الغرب أضيق وأضيق.. فقد احتلت المعارك السياسية قصيرة المدى أولوية على القرارات الاستراتيجية بعيدة المدى. ولعل عبارة «التشكك المحض» هي ما يجسد هذا المفهوم في الغرب.

كيف يمكن لأفضل دعاة الشجاعة السياسية والنظام الاقتصادي في العالم التواري عندما تحين ساعة الحسم؟

خلاصة القول؛ إننا لن نشهد أي قيادة عالمية قريبا، وإذا ما واصلت سفينة العالم الانحراف عن مسارها، فسنكون على الأقل قد أدركنا السبب وراء ذلك.

* عميد كلية «لي كوان يو» للسياسة العامة بالجامعة الوطنية في سنغافورة ويعمل على تأليف كتاب عن «القيادة والإدارة العالمية».

* خدمة «نيويورك تايمز»