ليلة غازي في الكويت.. رجل جاء وذهب

TT

ربما من غير السائد أن يُحتفل في الكويت بذكرى وفاة شخص ما، ولأن المرحوم غازي القصيبي استثنائي، فقد التأمت مجموعة من الشباب من الجنسين ليلة السبت الماضي لإحياء الذكرى الأولى لرحيل «أبو يارا» وتذكر أعماله ومواقفه، وهي كثيرة. كنت من المدعوين للحديث عن هذه الشخصية التي عرفتها عن قرب.. المفاجأة أن معظم من جاء لذكرى غازي كان من الشباب دون الأربعين، وربما أقل من ذلك. هم من دعوا ونظموا للأمسية وجعلها عامة للآلاف من المتصلين، من خلال وسائل الاتصال الحديثة، وهذا له معنى عندي؛ هو أن غازي لم يؤسس بنيانه الفكري على جرف، بل في أرض خصبة.

كانت ليلة استثنائية، توافق الجميع على تسميتها «ليلة وفاء لغازي القصيبي». في الوقت نفسه تقريبا، أي قبل تلك الأمسية بيومين، وزع مجموعة من الشباب كتب غازي القصيبي في شوارع الرياض، على رواد المقاهي والساهرين هناك.

هذا يعني أن الرجل ترك إرثا ثقافيا يكبر كلما أوغل في الزمن، وغازي له وجوه عدة على المستوى الشخصي والعملي والثقافي، فأي وجه من الوجوه تلقى الإنسان.

الاحتفال بذكراه في الكويت ومن الشباب على وجه التحديد، يعني أنه أصبح بشكل ما قدوة يتمنى كل شاب وشابه أن يسير على منواله، ككاتب وبيروقراطي وصاحب نظرة ثاقبة وأيضا كساخر من مجريات الأقدار.

غازي كمثقف ترك بصمته، وهي بصمة يعود إليها الجيل الشاب، إلا أنها تعني لنا أن المفكر المثقف يمكن أن يترك أثرا أكبر بكثير من السياسي أو من أي عمل في الشأن العام. لقد اصطلح على أن الثقافة هي قاطرة التقدم الإنساني، وأن المثقف الحقيقي الملتزم بقضايا وطنه وأمته، هو قائد تلك القاطرة.

حياة وأعمال القصيبي تسير في موازاة جيل كامل في الخليج، آمن بعدد من القضايا؛ أولاها الإخلاص لثقافته المحلية مع الاندماج في القضايا العربية، كما أنه لم يذب، كما يفعل أنصاف المثقفين، في البيروقراطية.. هو على النقيض، هيأ تلك البيروقراطية لخدمة مجتمعه وأنجز من خلالها مشروعات ضخمة اقتصادية وثقافية، إلا أنه كان قامة مستقلة، حتى عندما تكالبت عليه - كما وصفها هو - «العقارب والثعالب» انسحب علنا من المعركة وهو يقول: «قد يَغلب المقدام ساعة يُغلب»، فحتى في انسحابه يؤمم إلى النصر.

ستظل قصائد غازي مغناة ومذكورة ربما على شاكلة القمة الشعرية التي كانت له بمثابة النبراس، وأقصد بها أبو الطيب المتنبي الذي شغل الدنيا وملأها نقاشا حتى يومنا هذا. على الرغم من خلافه مع المؤسسة الحكومية في وقت ما، إلا أنه سرعان ما عاد إلى العمل الوطني، وهي خطوة لا تحسب له فقط، ولكن للمؤسسة أيضا التي رأت في غازي قدرة غير مسبوقة فتجاوزت حتى نزق الشاعر المبدع من أجل أن يعود إلى خدمة الوطن وتحقيق مصلحته، وهي خطوة أيضا تعني أن أهل القرار يتجاوزون نزق الشاعر المبدع، إلى الإداري المبتكر من أجل فائدة الوطن.

غازي لم يكن تحده حدود، فقد وقف في قصيدة مشهورة باسم «الشهيد» وهو سفير في بلاط السانت جيمس بلندن؛ وقف مع المقاومين الفلسطينيين، مما أثارت عليه غضب الدبلوماسية البريطانية الصامت، فتركها إلى منصب الوزير. وكوزير للعمل، ظهرت له ممانعة المورث الثقافي أمام التنمية، فلم يتردد في لبس مَرْيَلة «الجرسون» لخدمة الزبائن في منافذ الوجبات السريعة في جدة، ليكون قدوة بالفعل وليس بالقول وليقول لشباب وطنه، إن العمل ليس عيبا مهما صغر.. البطالة هي العيب، والاعتماد على سخاء الآخرين هو العيب الأكبر.

يعرف غازي كما عرف جيله، أن النفط مادة، مهما طال لها البقاء، زائلة، وأن البديل التاريخي هو العناية بالإنسان، الذي تسميه أدبيات التنمية «رأس المال البشري»، فصرف لذلك جزءا من وقته للكتابة في التنمية، ورغم أن كتابه عن التنمية من الحجم الصغير، فإنه مليء بالأفكار النيرة التي وجب أن تُقرأ من جديد؛ فالتنمية عنده لها علاقة بالثقافة. ويروي في ذلك قصة ظريفة ولكن لها معنى عميق؛ فقد زارت السيدة أنديرا غاندي المملكة العربية السعودية وكان هو «الوزير المرافق» في الحديث المتبادل.. شكت له رئيسة وزراء الهند حينها أنهم في الهند أرادوا توسيع قاعدة الزراعة، فأنشأوا على أحد الأنهار سدا كلف بضع عشرات من الملايين، ولما اكتمل انصرف الفلاحون عن الاستفادة من مياهه على خلفية أن «البركة انتزعت منه». وهو درس بالغ الأهمية اختاره غازي حتى يوصل إلى قارئه فكرة مهمة ومركزية، وهي أن بعض عناصر الثقافة المحلية قد تقف حائلا أمام التنمية.. هي قد تكون إشارة على طريقة «اسمعي يا جارة»، فهناك من العناصر الثقافية حولنا الكثير مما تتسبب في تعطيل للتنمية بشكل كبير أو صغير.

في أمسية الكويت، كان لا بد علينا أن نعرج إلى موقف غازي الشجاع من الاحتلال العراقي للكويت، فقد امتشق قلمه منذ اللحظة الأولى من الغزو كي يكتب في هذه الصحيفة سلسلة من المقالات (التي أرجوا أن تجمع وتوثق) تحت عنوان واحد هو «في عين العاصفة»، بعدها في مقابلة تلفزيونية قال: لقد كنت أدافع عن الكويت لأني أدافع عن وطني، فلو تُرك صدام حسين يعيث فسادا، لن يكون هناك خليج كما نعرفه. ولما ألحت عليه الصحافية التلفزيونية في الأسئلة التي كان بعضها ساذجا أنقذته طرافته وسخريته المعتادة فقال لها: أتظنين أني فعلت هذا للتكسب! ثم رمقها بنظرة من طرف عينه!

المبدعون تحاصرهم الشكوك وتطاردهم الاتهامات من الوعاظ المتحمسين، وقد رميت أحجار كثيرة في طريق المبدع غازي.. مُنعت كتبه وهوجم بشراسة من مدعي الفضيلة، حتى اضطر أن يكتب في آخر أيامه مقالا مشهودا بعنوان «أنا خادمكم» في تواضع رفيع، خلط فيه روح غازي التهكمية مع وخز الإبر لمنتقدين عن غير حق.

موهبة غازي مضنون بها على غيره، كان هذا ردي على سؤال من أحد شباب الأمسية، وكان السؤال: ما سر نشاط غازي الكثيف في التأليف والنشر؟ الموهبة، نعم، والدأب في طلب الثقافة، هما سيرة غازي الذي فقدناه في مثل هذه الأيام.. غازي رجل جاء وذهب، إلا أن مكتبته لم تمت، فكتبه ما زالت تنير طريق الشباب؛ بل وأفكاره أصبحت نهجا نموذجيا ومرادفا للنجاح لكل من اختار أن يسير على طريقه.

آخر الكلام:

يبدو أن الأمر قد أزف، وغدا لناظره قريب في ليبيا. الرسالة الأخيرة من القذافي التي أذيعت، كان فيها متهدج الصوت وضعيفا، أما أنه غير منطقي، فذلك دأبه. يبدو أن العيد سيكون لصالح الثوار الليبيين.