بولندا.. أجاب!

TT

عندما تظاهر الفرنسيون قبل نحو العام، وكسروا المخازن وأحرقوا السيارات، كتبت هنا، بفيض من عبقرية واضحة، أقارن بينهم وبين أهل الجزيرة المقابلة. يا لهدوء البريطانيين. يا لانضباطهم. ولم يمضِ شهران على هذا البحث الأنثروبولوجي وعلم الأنسنة، حتى نزل البريطانيون إلى شوارع لندن فدمروا وأحرقوا وكسروا ونسوا أنهم اخترعوا الهايد بارك.

لم أكن أول من يجرب هذه المقارنة البديعة بين «الإنجليز» والفرنسيين. وبما أن حظ لبنان مزدوج دائما، كالأحبة، فقد تميزنا عن سوانا في الشرق بأننا عرفنا الاستعمارين معا. وبالشطارة والتجارة اللبنانية اياها، لعبنا ورقة الإنجليز على ورقة الفرنسيين فربحنا الاستقلال وصرنا تحت انتداب غير أميركي غير معلن. وكدنا لا نعرف به لو لم يخطر للسفير الأميركي روبرت ماكلنتوك أن يحضر العرض العسكري في عيد الاستقلال ومعه كلبه. وكان كلبا صغيرا مهضوما لكن هذا لم يمنع وقوع فضيحة طنانة، اقتضت نقل السفير.

لست أول من حاول الكتابة عن الفرق بين الإنجليز والفرنسيين. هناك أطنان الدراسات. وقد سبقنا بقرنين مواطننا أحمد فارس الشدياق الذي لم يجد فرقا كبيرا في سلوك النساء في المدينتين اللتين جمعهما تشارلز ديكنز في واحدة. وكان لأسيادنا الأتراك محاولاتهم في هذا الباب العالي، فبعدما فقدوا الإمبراطورية وتقاسمها ثعالب الإنجليز وظباء فرنسا انصرفوا، رعاهم الله، إلى الدراسات والأبحاث الأنثروبولوجية يقطعون بها الوقت ويشكون صروف الزمان وحسرة العصر والأوان.

ومما رواه الأغا فالح رفقي أتاي (1933) أن معارضا أصدر صحيفة في باريس تعارض السلطان عبد الحميد، فما كان من جنابه إلا أن طلب من السلطات إغلاقها، فاستجابت فورا. فنقل المعارض مطبعته وذهب إلى لندن، فأرسل السلطان مبعوثه إلى الخارجية البريطانية حاملا الطلب نفسه، فأجابه الموظف المسؤول: «مستحيل». فاعترض هذا قائلا: «لكنّ الفرنسيين قبلوا بذلك». فرد الموظف: «ربما كان للفرنسيين جمهورية، أما نحن فلنا الحرية»!

ويقول فالح بك إنه عندما روى الحكاية لصديق فرنسي في باريس أجابه: «نحن شعب لا يهتم بالحرية مقدار ما يهتم بالمساواة». وهو قول شهير لأديب فرنسا شاتوبريان. هل من فروقات أخرى لاحظها فالح بك ويمكن أن تلاحظها اليوم؟ ما من سائق تاكسي في لندن يمكن أن يرميك بكلمة بذيئة، ولا من نادل يمكن أن يحز حنجرتك. يقول، مرجحا كفة الإنجليز: لا يتحدثون عن الحرية لأنها حقيقة، أما في فرنسا فهي زينة!

أنا من الذين يرتعدون من النادل الفرنسي وأخاطبه دائما بكل ما أوتيت من تبجيل. ولاحظت في السنوات الأخيرة أن الخدمة تغيرت في أحد المطاعم فأخذت أداوم على الذهاب إليه، منشرحا، لأن النوادل يحسنون اللياقة لا الزبون. ودفعني فضولي إلى أن أسأل المدير من أين هم موظفوه. بولندا، أجاب.