الخطر الأسود!

TT

لا تزال المنطقة كلها تبوح بأسرار جديدة كل يوم، وبشكل أو بآخر فإن المنطقة العربية، وربما الشرق أوسطية أيضا، أصبحت أشبه بـ«البصلة» التي كلما نزعت عنها قشرة وجدت أخرى فتنزعها فتجد ثالثة، وهكذا حتى تصل إلى لغز كبير في النهاية لا تجد له حلا ولا قشرة إضافية تنزعها بحثا عن حقيقة غامضة لا تعرف لها أصلا ولا فصلا، بينما تدمع عيناك حيرة ويأسا وخوفا من مستقبل غامض فقد الإنسان السيطرة عليه.

الحقيقة الكبرى التي نعيش في ظلها، وتمثل القشرة الأولى، هي الثورات العربية التي سماها الإعلام الغربي «الربيع العربي» حتى ولو جرت كلها في الشتاء، وظهر فيها، ليس زهورا أو أريجا طيبا، وإنما عواصف رملية اعتدنا عليها كل عام كإحدى علامات الطقس، أما الآن فإنها باتت من علامات السياسة. سقط الشهداء، ومعهم نظم حكم، وما زال البعض ينتظر نتائج معارك واسعة، وظهر التدخل الأجنبي، وجاءت القشرة الثانية محملة بنذر انقسامات وفتن كان هناك من يلعن إيقاظها، ولكنها استيقظت وبات أمرها حالا وماضيا على عجلة من أمره لا تعرف تحديدا إلى أين!

المعضلة الآن، وربما كانت هذه قشرة ثالثة، أن ما بات مقبولا من ثورات جاءت من رحم نظم عجزت عن التكيف أو التقدم في الوقت المناسب، وراوحت مكانها لفترة طويلة، أصبح يفصح الآن عن تخوف كان دائما حاضرا، وهو أنه في رحم الثورات الطيبة الشابة والعفية والديمقراطية يوجد مرض خبيث تصوره بعضنا «فزاعة» استخدمتها النظم القديمة لكي تطيل بقاءها وفسادها، وتصور البعض الآخر أنه ذهب إلى بلاد أخرى مثل أفغانستان وباكستان ودول الشيطان الأعظم.

لكن المرض وصل هنا وفي سيناء على الحدود المصرية مع فلسطين وإسرائيل، واستدعى، لأول مرة منذ توقيع اتفاقية السلام المصرية - الإسرائيلية، تدخل قوات مصرية ثقيلة لكي تكتشف جماعات جهادية لتكفير الدولة والحاكم والقائمين على شؤون البلاد، وأن محاربة هؤلاء هي نوع من الجهاد. رمز هؤلاء هو «العلم الأسود» المنقوش عليه عبارة «لا إله إلا الله» داخل دائرة، وهو على هذه الشاكلة يعني الخروج عن أعراف الدولة وقوانينها، وكذلك الثأر والانتقام لكل من يعمل بها. هذه الأعلام ظهر بعضها فيما عرف بالقاهرة بجمعة «قندهار» التي احتلت فيها جماعات «إسلامية» ميدان التحرير يوم 29 يوليو (تموز) الماضي، في واحدة من المليونيات التي أريد بها إشهار القوة والوجود الكثيف في الشارع. الغريب في الأمر أن بعضا ممن تم القبض عليهم في سيناء كانوا من الجماعات التي جرى القبض عليها من قبل، وتم «تحريرها» أثناء الثورة من قبل جماعات أخرى ربما كان منها بعض ممن رفعوا الأعلام السوداء في قلب القاهرة.

القضية هنا أن ما جرى في سيناء من تفجيرات لخطوط الغاز، ومحطة تحويلات الغاز إلى إسرائيل والأردن وسوريا، ومؤخرا محطة شرطة العريش، وحتى الإعلان عن إمارة إسلامية في سيناء، ليس هو الوارد في أحضان الثورة المصرية وإنما في الثورات العربية كلها. وفي الوقت الذي جاهدت فيه القوى الثورية والوطنية للتخلص من أبشع النظم العربية استبدادا وظلما وعشوائية وفشلا، وهو نظام معمر القذافي، فإن جماعة اللعنة السوداء قامت باغتيال قائد من قواد الثورة، وهو اللواء عبد الفتاح يونس، لكي تتخلص من خصم عنيد سوف يكون له شأن كبير بعد انتصار الثورة وتثبيت أقدامها.

لقد تسلل الخطر الأسود من تحت أردية الثورات العربية المختلفة، التي كانت ضرورية لا ريب في ذلك، ولكن لأخذها في اتجاه مضاد مظلم كالح السواد بالتعصب والجهل والتشدد والغلو. العلامات واضحة في مصر بقوة، وهي تحاول، خلال المرحلة الانتقالية، أن تصل إلى نوع من التوافق القومي حول صيغة دستورية تحفظ للدولة مدنيتها، وفي الوقت نفسه تحافظ على قدس أقداس الجماعات الدينية، وهو أن تكون «مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع» مع الحفاظ على الحقوق الدينية لأصحاب الديانات الأخرى. الصيغة هكذا باتت مقبولة من غالبية الجماعات والحركات السياسية في مصر، وظهرت في مجموعة من الوثائق التي أصدر الأزهر واحدة منها، بالإضافة إلى وثائق أخرى أصدرها أفراد وأحزاب وائتلافات سياسية وينوي المجلس العسكري دمجها في وثيقة واحدة تكون «استرشادية» لمن يضع الدستور المقبل.

لكن أنصار الخطر الأسود أطلوا برأسهم لكي يخرجوا على هذا التوافق بالإصرار على أن تتضمن الوثيقة نصا يقول: «إن مصر دولة إسلامية وليست علمانية»، وهو ما لم يرد في التقاليد الدستورية؛ حيث يكون الأمر بالتأكيد على هوية الدولة وليس نفي ما ليست عليه، وما دام نص «دين الدولة الإسلام» موجودا، فما الغرض من التزيد بالنص على أنها دولة إسلامية، وأكثر من ذلك الإضافة أن «أحكام الشريعة الإسلامية هي المصدر الأول للتشريع» بدلا من عبارة «المبادئ الكلية للشريعة هي المصدر الأساسي للتشريع» كما ورد في وثيقة الأزهر الشريف؟

لاحظ هنا أن الخطر الأسود يتدخل ويعدل انطلاقا من أصول دينية على وثيقة أعدها الأزهر الشريف، الذي هو من أهم قلاع العلم في الدين الإسلامي في العالم كله. ولكنه التشدد والغلو اللذان يستندان إلى تاريخ من العنف والإرهاب، وتصور للثورة أن طريقها هو إقامة أفغانستان أخرى، ليس في كابل ولكن في قلب القاهرة هذه المرة.

الخطر حالٌّ وفادح، وهو يأخذ صورا شتى بين العنف والحديث في القنوات التلفزيونية والفرض في المؤتمرات الدستورية. الغريب في الأمر أن الثورات العربية كانت في حقيقتها قائمة ضد نظم شاخت على مقاعدها، كما قيل في مصر ذات يوم، كما أنها، من جانب آخر، شكلت بديلا للإرهاب الذي عصف بعدة دول عربية خلال العقود الثلاثة الماضية والذي فشل على الرغم من عنفه في تغيير نظام الحكم في أي من الدول العربية. ولكن ما جرى هو أن النظم التي شاخت ذهبت إلى غير رجعة، وصارت «فلولا» كما يشار لها في مصر - أي بقايا جيش مهزوم حتى ولو عزي إليها كل مشكلات الثورة - أما الجماعات الإرهابية تحت مسميات شتى من جماعات إسلامية وجهادية وتكفيرية وسلفية فإنها تسللت إلى الثورات المختلفة وبدأت في فرض منهجها وطريقتها في التفكير وتوجهاتها نحو المستقبل. وبعضها كان متعجلا، كما حدث في سيناء، في أن يفرض على الدولة - المصرية في هذه الحالة - فصل جزء عزيز منها لكي يقيم ما شاء له من إمارة على غرار ما جرى من إمارات.

ملاحظة أخيرة، وربما تحتاج تفصيلا فيما بعد: إن مقتل أسامة بن لادن في باكستان ربما أعاد الخطر الأسود إلى منطقتنا بعنف وضراوة لم نعهدهما من قبل.