الخيارات الليبية

TT

الأكيد أن نظام معمر القذافي قد سقط إلى غير رجعة.. الجدل هو في التفاصيل: هل تم اعتقاله؟ هل تم اعتقال أنجاله؟ ظهر سيف الإسلام مجددا ليعيد رسم المشهد العبثي للإعلام المرتبك في إدارة الثورات والحروب والذي للأسف يقدم مشاهد تتم صناعتها على عجل في إشكالية تعيد إلى الأذهان ملف الحقيقة الإعلامية التي تكون في كثير من الأحيان متخيلا رغبويا أكثر من كونها واقعا على الأرض. بدا هذا واضحا في القنوات العربية التي تبث صورا منحازة - والانحياز خطيئة الإعلام الكبرى – لطرف دون آخر، للحد الذي يشوه مصداقية الطرف الأضعف (الضحية) بطريقة عكسية.

المتغيرات الصغيرة والآنية التي تتغير بإيقاعات سريعة وخاطفة يجب ألا تشغلنا عن تأمل ما بداخل الإطار الكبير للصورة الليبية بدافع البحث عن الحقيقة بواقعية شديدة وليس من منظور ما نريده نحن أو نأمله، ففي خضم الحدث الأكثر إيجابية عن سقوط أحد أعنف وأكثر الأنظمة الدموية في العصر الحديث، لا بد من الحديث عن سيناريوهات ما بعد المرحلة القذافية بكل جنونها وغرائبيتها، تلك الكوميديا السوداء التي صنعها العقيد على ما يزيد على أربعين عاما، والتي دفع الشعب الليبي ثمنها الكثير من غياب التنمية وتمزق الوحدة الوطنية على حساب القبيلة والانشقاقات المناطقية والدخول في دوامة العنف فرارا من الجحيم القذافي، في حين أن التجانس العقائدي والثقافي بين أفراد الشعب الليبي، إضافة إلى تميز الموقع الجغرافي والموارد الضخمة وعدد السكان المحدود، كان سيجعل ليبيا إحدى أكثر دول أفريقيا رخاء واستقرارا.

لنقل بداية إن الأثمان التي دفعها الشعب الليبي في ثورته التي تأخرت طويلا تعد الأقل كلفة رغم فداحتها إذا ما حسبناها بميزان المبررات العادلة لمناوءة طغيان القذافي، ومع ذلك فإن مرحلة ما بعد غياب العقيد هي الأصعب بين كل الثورات رغم سهولة ما تبدو عليه، فالكعكة الليبية النفطية واشتراك كل المناطق والقوى السياسية والعسكرية في الثورة وفاتورة التدخل الغربي التي ستلقي بظلالها على المرحلة الانتقالية ليست كل المعوقات لتحول سريع نحو جنة الديمقراطية التي عادة ما يتم الحديث عنها بأجواء ربيعية غائمة لا تعكس حرارة الاستحقاقات السياسية المتساوية إذا ما نظرنا إلى تكافؤ مناوئي القذافي ومسقطيه من أبناء الشعب الليبي الذي تمثله قوى وتجمعات دينية محافظة ما بين سلفيين و«إخوان» والعائدين من تجربة القتال في مناطق التوتر في أفغانستان والذين لم ينضموا بكثافة إلى طور «القاعدة» ما بعد سقوط كابل بسبب قناعتهم بضرورة استهداف نظام القذافي وتأخر أعمارهم نسبيا واستفادتهم من مرحلة العفو والعودة إلى البلاد.

الحرب الأهلية وإن بدت بعيدة، بحكم أن غياب القذافي سيمنح فرصة تاريخية لانفراجة مدنية في البلاد، فإن إيجاد صيغة توافقية بين أطراف المجتمع الليبي ومكوناته السياسية يعد التحدي الأصعب في القادم من الأيام، لا سيما إذا علمنا أن تلك الأطراف مرتبطة بجغرافية مناطقية، وفي الوقت نفسه تتباين مواردها المالية ومقدراتها على الأرض التي تقع تحت سيطرتها، فهناك القبائل المستقلة الشرقية والغربية، وحتى الغربية بينها انقسامات حادة، وهناك أيضا القادة العسكريون القدامى والمجلس العسكري الذي يضم شخصيات من الضباط الأحرار الذين خططوا في عام 69 لانقلاب ضد الملكية والمجلس الوطني الانتقالي والمجموعات الدينية المستقلة التي لم تشكل حتى الآن حزبا يخصها عدا كونها بحكم المرحلة السابقة لم تجرب العمل السياسي الحركي.

إشكالية الثورة الليبية أنها لم تكن من صنع الثوار، ولا يد لهم فيها، حيث الخيار المسلح والمواجهة العسكرية الدامية جزء من تكنيك العقيد الجنوني، لكن آثارهما، حيث التخلي عن السلاح والعودة إلى الأجواء السلمية والمناخ المدني، تتطلب إرادة قوية وحنكة سياسية في صنع «هوية» سياسية جديدة لليبيا لم تصبغ باللون الأخضر البغيض في الوجدان الليبي، تلك الهوية عادة ما تأخذ وقتا طويلا وجدلا أطول، كما أن نجاحها محكوم بأن تصنع في الداخل دون أي إملاءات من الخارج أيا كان.

تأخر المرحلة الانتقالية قد لا يكون له ثقل اقتصادي كبير كما هو الحال في مصر أو اليمن أو تونس، بسبب الموارد الاقتصادية الجيدة التي يملكها الليبيون وأبرزها النفط، إلا أن الاتكاء على النفط محل أطماع الجميع من قوى داخلية وخارجية بحاجة، وفقا لخبراء نفطيين، إلى ثلاث سنوات على الأقل لكي يعود إلى مستوى الإنتاج الطبيعي والبالغ 1.6 مليون برميل يوميا.

وبإزاء المرحلة الانتقالية التي يجب ألا تطول فإن شبح التقسيم والحرب الأهلية التي حذر منها القذافي بطريقة كوميدية وساخرة، وكررها حتى أصبحت أسطوانة مشروخة، افتراض مشروط بمن يمسك زمام الأمور داخل المجلس الانتقالي الذي أفزع في البداية متابعيه في طريقة تعامله مع حادث اغتيال عبد الفتاح يونس والطريقة البشعة التي تم بها، لكنه عاد ليبدو عاقلا ومتزنا جدا في حديثه المتسامح عن التعامل مع أنصار القذافي، وهذا مؤشر إيجابي يبعث على التفاؤل بمستقبل ليبيا الذي في ما يبدو سيكون أقل تأثرا بالعوامل الخارجية أو ترقبا لباقي الثورات العربية، فعيون الليبيين لم تكن مفتوحة بدهشة على مصر أو تونس، لكنها كانت تحدق صوب القذافي الذي لم يعزلهم سياسيا بأفكاره الخضراء، بل جعلهم في عزلة تثاقف ومثاقفة مع العالم.

[email protected]