الحماس الإيجابي

TT

في آخر شهر رمضان المبارك، يحق لنا أن ننظر إلى أحداث الأشهر الأخيرة في ما سمي بـ«ربيع العرب»، هل كانت نتائجها إيجابية أم سلبية؟ أو هل ظهرت النتائج بعد؟ وفي أي اتجاه هي سائرة؟

كتبت في هذا الموضوع هنا عددا من المقالات، فكتب لي الأسبوع الماضي أحد الأصدقاء ممن أحترمهم وأقدر مساهماتهم الفكرية العميقة، كتب إلي معاتبا؛ لماذا أنت في معظم كتاباتك حول «ربيع العرب» تبدو متشائما؟ لعل ما سوف يأتي يكون أفضل مما مضى، ولعلنا كعرب ندخل عصرا جديدا غير مسبوق.

مع تقديري الكبير لوجهة النظر تلك، فإن تساؤلي وشكوكي التي أعلن عنها، إن صح التعبير، هو من أجل التحذير بالمحاذير الكبرى التي يمكن لها أن توجه العرب، فنكون بذلك كمن خرج من فخ ليقع في مصيدة، وليس من قبيل تثبيط الهمم.

في البداية عنت لي الطرفة الشهيرة للتدليل على ما أقصد، والتي تقول بأن أحدهم سأل آخرين: «ما رأيكم في المجاعة التي تجتاح أفريقيا؟»، فأجاب الأميركي: «ماذا تعني أفريقيا؟!»، بينما كانت إجابة الأوروبي: «ماذا تعني مجاعة أصلا؟!»، أما العربي فقد كانت إجابته مستغربة حيث أجاب سائلا: «ماذا يعني رأي؟!».

ليست طرفة ولكنها إشارة محزنة إلى من يرى أن العرب بعد ربيعهم مقدمون على ديمقراطية جيفرسونية أو ويستمنسترية! حيث إن رأي العربي عادة ما يستجيب للمتسلط، سواء كان في المنزل أو المجتمع.

تعالوا نختبر الماضي القريب. خرج علينا العسكر منذ منتصف القرن الماضي على دبابات «مطهمة» ليقولوا لنا إنهم قادمون للتحرير وإشاعة الحرية والعدالة والمساواة وتخليص السياسة العربية من سيطرة رأس المال و.. و.. فما الذي انتهينا إليه؟! العدو الصهيوني توسع أكبر مما كان، كما توسعت السجون وعجت المنافي في بقاع الدنيا بخيرة العرب المنفيين من السلطات الثورية، بل تابعت بعضهم المسدسات مكتومة الصوت، ثم انتهينا إلى فقر أكثر، وجهل أعمق.

امتطى السادة الجدد الميكرفون وحاربوا من خلاله أهلهم! وهكذا انتهينا إلى قمع غير مسبوق، في الوقت الذي كان الليبيون يتظاهرون ضد إدريس السنوسي بقولهم: «إبليس ولا إدريس»، جاءهم إبليس في ثياب القذافي الملونة فاستباح دمهم ومالهم على السواء، ونفس القصة تتكرر في أكثر من عاصمة عربية باسم الثورة.

إذا تركنا ذلك جانبا ونظرنا إلى ربع القرن الماضي فقط، فسنجد أن العرب تحمسوا كثيرا للإطاحة بشاه إيران ذي التاج المرصع بالزمرد، لما كان يمثله من غطرسة وتحد لشعبه وجيرانه. وكان أهل الفطنة في المعارضة الإيرانية يقنعوننا أنهم يتعاونون مع الملالي فقط من أجل أن يصدر الملالي فتوى تُخرج مليون إيراني إلى الشوارع، أما الحكم القادم في طهران فسيكون ليبراليا وتعدديا وحديثا يسود فيه القانون ويتساوى أمامه الناس.

ما انتهينا إليه هو تشدد ديني فاقع وقمع يساوي في شدته أو يزيد قمع الشاه وجلاوزته، حتى الاعتدال الديني جُرد من مقوماته، فها هو خاتمي ورفسنجاني وكروبي، وكلهم ليسوا بعيدين عن الصف، يهمشون لصالح التشدد وانتظار ما سيأتي به الغيب. فلم تعد شجون الشعب الإيراني مسموعة ولا صناديق انتخابه بعيدة عن التزوير، أصبح مثقفو إيران - مرة أخرى - في المنافي.

وفي العراق جاء الأميركيون ليخلصوا أهل العراق من ديكتاتور، على أمل أن يصبح العراق دولة حديثة وتعددية تحمى فيه الحريات، وها هم يتركونه بين أيد إما مغلقة سياسيا تُهمش الآخرين، أو مغلقة بعمائم، تصبو إلى ولاية في الدنيا والآخرة! وزاد الفساد في طبقته السياسية حتى أزكم الأنوف.

من هنا فإني أكتب محذرا، مع الترحيب بكل ما يحدث، بأن المهم ليس ما يحدث الآن من أحداث في «ربيع العرب»، الأكثر أهمية هو أحداث اليوم التالي وخطة الطريق المستقبلي.

عودة إلى الطرفة السابقة، فإن الثقافة العربية في مجملها لا تعرف كيف تفرق بين الرأي وصاحبه أو حتى مكان إقامته، كما أنها لا تقبل الرأي الآخر بل تجرّمه أو تكفره أو تخرجه من المواطنة، فقط لأن له رأيا آخر مختلفا عن المعتاد أو عما يعتقد منه في السلطة.

قلقي الحقيقي، من أن «ربيع العرب» قد يؤدي إلى شتاء قارس وبرد سياسي شديد، نترحم وقتها على ما كان، فربما يكون ما كان أفضل مما قد يأتي!

هذا لا يعني البتة بأني قابل للديكتاتوريات المتسلطة والقمعية، ولكني فقط أريد أن أشحذ الهمم بأن نتوخى جميعا الحذر وننتقد الآن قبل أن يُقمع النقد لنطالب بخارطة طريق، تكرس القيم السياسية الحديثة وتحترم الحريات والمؤسسات. المهم ليس الإطاحة بمبارك وبن علي والقذافي وصالح ومن هم في طابور الانتظار، بل الأهم من ذلك أن تتمكن الشعوب من بناء خيار أفضل، ونكون قادرين على بناء مجتمع عادل وصحي ومنتج، وأهم ما فيه أن لا يباع الوهم للمواطن تحت أي ذريعة، بأن غده سيكون سمنا وعسلا، كما لا يباع الوهم بأن قمع المواطنين هو الطريق إلى تحرير الأرض واستتباب الأمن، فالمقموعون لا يحررون أرضا ولا يعرفون معنى للرأي الآخر!

من هنا فإن دعوتي هي الحماس الإيجابي لما يحدث، وتأكيد ما نتوقع من إيجابياته والتحذير من مزالقه، حيث الحماس العاطفي قد كثر للإشادة بهدم القائم من دون الالتفات بنفس القدر لما يجب بناؤه.

أرجو أن يكون صديقي، ومن يشاركه التفكير الذي أشار إليه، قد اقتنع.

آخر الكلام..

مما ظهر حتى الآن من سراديب تحت باب العزيزية في طرابلس الغرب، نعرف أن القذافي كان يتوقع في يوم ما أن يكون مطاردا وهاربا، وكلما كثرت سراديب قصر الحاكم كان قمعه أفظع.