بطل شعبي جديد في معركة القضاء على السلام

TT

قبل ثورة يناير كان من الصعب أن تجد شخصا من بين الصفوة الإعلامية والثقافية، لا يطالب بإلغاء اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، وذلك لأنها كما يرون، أفقدتنا أعز ما نملك وهو سيادتنا على سيناء، وهي السيادة التي كانوا يرون أنها غائبة لأن عدد قواتنا ومعداتنا على الحدود في الشمال قليل للغاية. الواقع أن مصر لم تمارس سيادتها على سيناء بالمعنى العصري المدني، قبل اتفاقية السلام. كان المطلوب إذن من معظم المثقفين إلغاء الاتفاقية، وكانوا يرون أن ذلك ممكن بغير الانحدار إلى حالة حرب مع إسرائيل. غير أن موقف الصفوة تغير بعد ثورة يناير، هم يطالبون فقط بمراجعة بنودها وتعديلها، ولكن لا أحد حدد البنود أو التعديلات التي يجب إجراؤها.

ولكن ما حدث في الأسابيع الأخيرة في سيناء، من هجوم لجماعات من المتطرفين على مراكز وأقسام للشرطة في العريش، وإطلاقهم للنار من أسلحة متعددة العيارات، نتج عنه سقوط ثلاثة قتلى من رجال الشرطة، وهو ما أيقظ المصريين على حقيقة مؤلمة هي أن سيادتنا على سيناء لا تهددها بنود اتفاقية السلام، ولكن ما يهددها هو خروج الجماعات الدينية المتطرفة على الدولة وإعلانها الحرب على رجال شرطتها وهم رموز سيادتها، وهو موقف كما ترى لا يصح تعدد الآراء فيه، ولا يحتمل إلا استعادة درس التاريخ وهو أن العنف يرد عليه بأقصى درجات العنف.

بالتأكيد مصر في هذه الحالة ستكون في حاجة لأعداد من الرجال والعتاد ربما أكثر مما تحدده الاتفاقية، لا بأس.. لا أعتقد أن الأمر سيتطلب تعديل بنود في الاتفاقية، إنه الحق الشرعي والطبيعي للدولة في الدفاع عن نفسها، ولن أكون مخطئا عندما أقول إن الأمر لن يتطلب أكثر من مكالمة تليفونية بين الأطراف المعنية. لا إسرائيل ولا غيرها ولا أحد من حقه أن يمنع الدولة المصرية من الدفاع عن نفسها وعن سيادتها وعن شعبها. لا توجد اتفاقية على الأرض يتعهد فيها طرف بالامتناع عن الدفاع عن نفسه.

وفي الأسبوع الماضي حدث ما أعاد أجواء الحرب إلى أرض سيناء، تسللت جماعة من البشر إلى إيلات وقامت بإطلاق النار، وقنابل الآر بي جي، على ركاب أتوبيس إسرائيلي وعدد آخر من ركاب السيارات، وحدثت مطاردة لهم، قتلوا فيها جميعا، غير أنه أثناء المعركة قتل أيضا خمسة من رجال الشرطة المصريين. غير أن أحدا من رجال الإعلام في مصر ونسائه لم ينتقل إلى مسرح العمليات بسرعة لينقل لنا تفاصيل ما حدث على الأرض المصرية وفي منطقة إيلات.

جريدة مصرية واحدة فقط («التحرير» 25 أغسطس/ آب) ارتكبت جريمة التطبيع عن بعد بأن نقلت بشكل مطول وقائع ما حدث عن جريدة «هآرتس» الإسرائيلية، لنعرف أن الجماعة المهاجمة كانت ترتدي ثيابا قريبة الشبه من ملابس الشرطة وأن واحدا منهم قام بتفجير نفسه في رجال الشرطة وهذا يفسر طلب الإسرائيليين من الجانب المصري تشريح جثث الضحايا. وأن ثلاثة من المهاجمين كانوا مصريين، وأن واحدا منهم كان من بين الفارين من السجون المصرية في مرحلة الانفلات الأمني، ولكن الحادث فجر براكين الغضب داخل المصريين فتجمع العشرات وربما المئات حول السفارة الإسرائيلية مطالبين برحيل السفير، منعتهم الشرطة من اقتحام السفارة، وهنا ظهر بطل جديد في معركة القضاء على السلام وهو أحمد الشحات الذي ينتمي إلى إحدى قرى محافظة الشرقية، الذي تسلق جدران البناية ذات العشرين طابقا وقام بإنزال العلم الإسرائيلي ورفع العلم المصري بين تهليل الجماهير وتكبيراتها، لقد انتصر الشحات الشاب على إسرائيل وأيضا على كل الأعراف والقوانين الدولية والأعراف السياسية والدبلوماسية التي تحتم دفاع الدولة عن كل السفارات التي تعتبر أرضا أجنبية.

وتقديرا لما فعله هذا الشاب أعطاه محافظ الشرقية شقة ويطالب الأهالي الآن بإطلاق اسمه على أحد الشوارع، وفي الغالب سيقوم شباب القرى القريبة بالتدرب على تسلق المواسير واعتلاء المباني العالية. واستمر الاعتصام حول السفارة، ولكن يبدو أن الناس بدأوا يفكرون في أن ما حدث لم يكن شيئا يفخر به المصريون، لذلك بدأوا يفكون الحصار حول السفارة ومصدرنا في ذلك يمكن الاعتماد عليه وهو ما نشرته جريدة «المصري اليوم» في 25 أغسطس: «وأعلى كوبري الجامعة وفي الجهة المقابلة للسفارة، جلس سيد بائع الأعلام يحكي شكواه بسبب انخفاض حركة البيع التي لم تتجاوز 12 جنيها وذلك بسبب انخفاض أعداد المتظاهرين.

وعلى الجانب الأيمن لكوبري الجامعة جلس محمود بائع الشاي الشهير في الاعتصام وهو يمنح مشروبه الساخن مجانا لبعض المعتصمين وبمقابل لمعتصمين آخرين، مفسرا ذلك بالقول إن المتظاهر الذي لا يحمل نقودا يعطيه الشاي مجانا، مؤكدا أن حصيلة مكسبه بعد انخفاض الأعداد لم تتجاوز 20 جنيها بخلاف الأيام السابقة التي كان يحصل فيها على 400 أو 500 جنيه.. إنني أفكر في هؤلاء الذين لا يحملون في جيوبهم نصف جنيه ثمن كوب الشاي وأرى بالفعل أن لهم الحق في الاعتصام أمام السفارة التي يعتقدون أنها تسببت في فقرهم وتعاستهم، وأحيي في الوقت نفسه الأخ سيد الذي لا يبخل عليهم بالشاي مجانا.

والآن اسمحوا لي أن أكرر نفسي وأن أقول ما سبق لي أن قلته ألف مرة.. سيناء ليست جبهة قتال تمارس فيها الجماعات الفلسطينية عملياتها القتالية التي يموت فيها المدنيون وحدهم، سيناء أرض مصرية محررة وتحويلها إلى ميدان قتال يجعل منها مكانا يقتل فيه الفلسطينيون والمصريون والإسرائيليون وربما السياح من كل الأجناس. النشاط الوحيد الذي أعترف به هو جهود السلطة الفلسطينية لإقامة الدولة عبر التفاوض، أما هذه الجماعات المنفلتة فهي جماعات دينية متطرفة لا تهاجم الإسرائيليين فقط، بل تهاجم وتقتل المصريين أيضا كما حدث عندما هاجموا أقسام الشرطة في العريش، وكما فعلوا من قبل عندما اختطفوا ثلاثة من ضباط الشرطة الشبان ولم يظهر لهم أثر حتى الآن.

الدولة هي المحتكر الوحيد للعنف، وليس من حق مخلوق أن يحمل سلاحا غير ما تصرح له به الدولة على سبيل الدفاع الشخصي. يسري ذلك على صحراء سيناء كما يسري على حي الزمالك بالقاهرة. نأتي الآن لقضية الإعلام والتطبيع، سيحمل لنا المستقبل كثيرا من الأحداث والحوادث في سيناء وفي صحراء النقب، وهو ما يتطلب أن ينتقل الإعلام بسرعة إلى هذه الأماكن لتغطية ما يحدث، ولكنه لن يفعل، سيترك ذلك للصحافة وأجهزة الإعلام الإسرائيلية، وذلك خوفا من تهمة التطبيع، غير أني واثق من وجود جماعة من شباب الصحافيين لا تخشى هذه التهمة خاصة عندما تتعارض مع الدفاع عن مصر والمصريين، وعلى العموم يمكن التكفير عن كل عملية تطبيع بالتوبة، كل مأمورية يضطر فيها الإعلامي لدخول إسرائيل، عليه أن يتوب بعدها أمام مجلس نقابة الصحافيين، لأنه من المعروف أن التائب عن التطبيع كمن لا تطبيع له.