المثقفون السوريون والتحدي الراهن!

TT

من البديهي أن تضغط الأزمة المتفاقمة وجسامة المعاناة والتضحيات على خيارات المثقفين السوريين، فتحرمهم فرصة التهرب والبقاء بمنأى عما يحدث، وتضعهم على مفترق، إما الانحياز إلى صفوف المتظاهرين والمحتجين ودعم مطالبهم المشروعة في الحرية والكرامة وبناء الدولة الديمقراطية، وإما الوقوف مع أهل الحكم وأصحاب الخيار الأمني والعمل على تبرير ما يرتكبونه ونشر ذرائعهم عن المؤامرة والعصابات المسلحة وجماعات أصولية أو سلفية تتحين الفرصة للانقضاض على السلطة والمجتمع!

الاصطفاف الأخير أمر شائع في بلادنا، مذ نجحت النخبة الحاكمة وطيلة عقود في استنبات أنواع شتى من المثقفين الموالين لها وتسخير إبداعاتهم وإنتاجاتهم الفكرية لتثبيت ركائزها وضمان تأييد الناس لها، بدءا بالذين اندمجوا في عالم السلطة ومغانمها وارتضوا لأنفسهم التحول إلى ثلة من المحازبين والأتباع أو ما يشبه الأبواق الدعائية، لا هم لهم سوى الدفاع عن السياسات الرسمية وتسويغ الممارسات الاستبدادية وأنواع الفساد والبطش والظلم، يليهم من قدموا، قسرا أو كرها، بعض أشكال الدعم والمساندة للحكام في ظروف الشدة والأزمات واكتفوا من الغنيمة بالإياب، وأقلهم سوءا من آثروا الصمت والتزموا الحياد والسلبية تجاه مآسي شعبهم ومعاناته، ولم يميزوا أنفسهم كحملة مشروع خاص يتطلع، بالاستقلال عن المرامي السياسية، إلى مساعدة المجتمع في التحرر والنماء.

لكن انهيار الستاتيكو القديم، وتبدل المشهد السوري بصور المظاهرات الشعبية التي تمتد ويتسع انتشارها، أمام تصميم أهل الحكم على المعالجة الأمنية وأسلوب القمع والعنف العاريين لسحق هذه التحركات الاحتجاجية، ساعد على نشوء وعي محايث للحراك الشعبي في أوساط المثقفين يلح على إعادتهم إلى موقعهم الحقيقي وتسخير المجال الثقافي ليكون مدخلا مناسبا للتفاعل مع الناس وتمكينها وتعزيز وحدتها وصمودها، لنشهد حالة من الفرز وإعادة الاصطفاف لشريحة من المفكرين والكتاب والفنانين جاءوا من شتى المنابت والمشارب واختاروا دعم حراك شعبهم ومطالبه، بعضهم كرد أخلاقي ووجداني على ما يرونه من عنف مفرط لا يحتمل، وبعضهم لأنهم استشعروا أنهم أكثر المعنيين بمطالب الحرية والمساواة وقيم المواطنة وحقوق الإنسان التي ينادي بها المتظاهرون، وبعضهم لإدراكهم حجم المخاطر المحتملة التي يمكن أن تنجم عن توغل أصحاب الخيار الأمني والعسكري في خيارهم، وتطلعهم إلى خلاص من الأزمة الراهنة بأقل تكلفة ممكنة!.

صحيح أن المثقفين السوريين لا يشكلون كتلة متجانسة موحدة الأهداف والاهتمامات، بل هم فئات متنوعة تخترقها المصالح والحسابات الذاتية، وصحيح أن بعضهم لا تزال تأسره طرائق التفكير القديمة ولم يتحرر بعد من دور التعبئة الإيديولوجية في دراسة الظواهر وتحليل الأحداث، وأن غالبيتهم أحجمت لفترات طويلة ولأسباب متنوعة عن ممارسة نقد حازم ضد التسلط وانتهاكات حقوق الإنسان، ولم تظهر قدرا كافيا من التضحية والشجاعة للاعتزاز بالحياة الديمقراطية وحرية التفكير والإبداع، لكن الصحيح أيضا أن ثمة مشتركا يجمعهم بصفتهم عموما أشد الناس التصاقا بالمعرفة وأقربهم إلى تحكيم العقل والنقد وأكثرهم استعدادا للتعبير الإبداعي والإنساني عن هموم البشر وتطلعاتهم، مما يضع على عاتقهم مهمة نوعية تتعاظم موضوعيا اليوم للرد على ما وصلت إليه أحوالنا، وعلى الأقل للتضامن مع تضحيات الجماعة التي يعيشون بين ظهرانيها، وما تكابده من قهر وتنكيل.

إن نبذ العنف ورفض لغة القمع والإقصاء واستخدام القوة العسكرية ضد المدنيين العزل كان فاتحة تحرك المثقفين السوريين، وكلنا يذكر البيانات وردود الأفعال التي رافقت حصار درعا، تلتها مشاركات متنوعة في بعض المظاهرات والاعتصامات في العاصمة دمشق وفي مجالس العزاء التي أقيمت في بعض الأحياء، رافق ذلك مواقف وتصريحات ورسوم داعمة للاحتجاجات وأيضا اجتهادات متعددة في البحث عن مخرج آمن مما نحن فيه يعيد الحياة إلى المجتمع ويمنح الأولوية للحوار والحلول السلمية، فضلا عن تكرار الدعوات من كتاب ومفكرين وشعراء وفنانين تطالب صراحة بإيلاء أهمية خاصة لتفعيل دور الثقافة النقدي في تحديد أسباب إخفاقاتنا وسبل تجاوزها، حتى إن بعضهم دفع الموقف إلى حدوده القصوى، واعتبر أي محاولة لتغييب أو حرف دور المثقف في مجتمع تثقله مثل هذه الأحداث الدموية ويعاني هذا الحجم من المشكلات هي أشبه بالخيانة.

هذا الدور يستوجب كي ينمو ويطرح ثمارا جيدة تصحيح علاقة المثقفين مع محيطهم ولنقل إعادة الاعتبار لموقعهم المتميز في المجتمع وعمق صلاتهم مع الناس. وإذا كانت المسؤولية الأساسية في خلق هذه الهوة بين المثقف والجمهور تقع على عاتق الاستبداد الذي عطل فعالية الثقافة وأخضعها لمصالحه وحاجاته وقطع تيار المعرفة من الوصول إلى المجتمع تحت طائلة التخوين والنفي والسجن، فثمة جزء من المسؤولية يتحمله المثقفون أنفسهم باستسلامهم لنتائج ما حصل والتردد في المجاهدة الذاتية لردم هذه الهوة، ولنقل استسهال التعايش مع حالة العزلة والسلبية، وخلق المبررات للتهرب من واجبهم في التعبير عن حاجات المجتمع وحقوقه والمساهمة في تغييره.

في الماضي عندما كان الشعب السوري ينوء تحت وطأة التخلف والجهل واستبداد السلطنة العثمانية، كان المفكرون والمثقفون هم أول من بادر للرد على هذه الوقائع، فتقدموا بجرأة للعب دورهم في إيقاظ الناس من سباتهم الطويل وقدموا لقاء ذلك التضحيات الجسام، واليوم مع الحضور المتنامي لدور البشر في تقرير مصائرهم وإصرارهم، أيا يكن الثمن، على نيل حريتهم وكرامتهم، ينهض تحد جديد أمام المثقفين السوريين وتغدو الحاجة ماسة لدورهم في نقد هذا الواقع المريض ومشاركة الجماهير معاناتها وهمومها، كما مطالبها وتطلعاتها!.

هو أمر حيوي وملح أن يعقد الأمل على دور المثقفين السوريين في مسيرة الخلاص، ربما للتعويض عن قصور المعارضة السياسية التي أضعفها القمع والإقصاء وشروط نضال قاسية، وربما لصدقيتهم في تقديم إجابات وافية عن الأسئلة التي تطرحها حركة الناس الناهضة وآفاق تطور انتفاضتهم، أو ربما بسبب الثقة بضمائرهم الرافضة لتخريب المجتمع والسياسة والمنحازة بداهة لحقوق البشر وحرياتهم، أو كرهان على روح المسؤولية العالية لديهم لتجنيب البلاد النتائج السلبية والمدمرة التي يرجح أن تنجم عن الإصرار على التوغل في الخيار الأمني!