بلا مقارنات

TT

سوف يدخل التاريخ على أنه ظاهرة مختلفة.. لن تنفع المقارنات، ولن تجدي المقاربة.. عبثا تبحث في الذين حاول تقليدهم، فقد تجاوزهم جميعا. عبثا تبحث في سير الذين قرأ عنهم من طغاة، فقد كان أقل ذكاء، وأكثر مهارة منهم جميعا. وعبثا تبحث في الثورات، مزعومة أو حقيقية، فلم يعش صاحبها أو مصنعها إلا فترة قصيرة، ولم يقبض أحد على كل حصادها، أما هو فقد أمضى 42 عاما، يمل (بضم الياء) ولا يمل، يحكي ويغير خطابه ويغير بزاته ويستبدل خياطيه.

25 ألف قتيل و70 ألف جريح ومئات آلاف المشردين حتى الآن. وهو «يشخط» في الناس. سطا على الحكم من دون ضربة كف. مجرد بيان من الإذاعة، إذاعة أحد رفاقه. وانتهى الأمر. والآن خربت ليبيا وهو يلعلع: عملاء وجرذان. ما هذه الظاهرة البشرية؟ ماذا تفعل السلطة بالناس، أو ببعض الناس؟ لماذا يتحول الديكتاتوريون إلى مضحكين؟ يقول هـ. ج. ولز في وصف موسوليني، يوم لا يزال حيا: «إذا درسنا فقط ملصقاته الموزعة في الأرض، نكتشف كم هو مزيف وبلا موهبة. وجه ممثل محترف؛ فهو يحملق دائما من خلف ثوب يتشبه فيه بالأبطال الأقدمين، بعينين خاليتين من الفكر والذكاء توحيان بالتحدي الفارغ. كأنه يقول: حسنا، وماذا تريد أن تقول عني؟ إنني أنكره. إنه وجه رجل مغرور أغلظ الغرور. وليس هو بالسياسي المدبر بل القامع المرهب».

عثروا في منازل باب العزيزية على مقاعد ذهبية وتماثيل ذهبية وذهب في كل مكان. لا وصف ولا ذكر للذهب في الفصل الذي يشرح الاشتراكية في الكتاب الأخضر! لكنه الطابع العام لقصور الاشتراكيين في كل مكان. ترك الديكتاتور الأول تشاوشسكو قصرا من 1100 غرفة (ألف ومائة غرفة). وعندما سئل الإعلام العراقي لماذا 48 قصرا رئاسيا، قال من أجل أن يتمتع بها الشعب.

الغريب أن الديكتاتوريين غير الاشتراكيين عاشوا حياة بلا مبالغات. التهمة الكبرى لزوجة الجنرال فرانكو أنها جمعت الكثير من قطع الفضة القديمة. وقبل وفاته رد فرانكو أمانة الملكية إلى أصحابها. وفي البرتغال مات سالازار على فراش عادي ولم يورث البلاد لأحد.

ماذا كان عليه أن يعلم؟ إنه ليس ماو تسي تونغ، لكي يقارع الكتاب الأحمر بالكتاب الأخضر، إنه ليس مانديلا ولو ارتدى قميصه المزهر، يصر وزير خارجيته ذات مرحلة، عبد الرحمن شلقم، على أنه كان يعي ما يفعل ويخطط له، وأنه اخترع الكتاب الأخضر لكي يلغي كل المؤسسات ويتسنى له حكم ليبيا من خلال جهاز مخابراتي يسميه حكم الشعب. وعندما قدر للشعب أن يتحرك طارده تحت قصف الدبابات والمدافع وهمجيات الكتائب، التي نتمنى أن تكون آخر مظاهر التوحش في ليبيا، وأن يستطيع المجلس الانتقالي ضبط سلوك وتصرفات المنتصرين.. فالهمجية ممنوعة على المهزوم والمنتصر معا.