أنا الشعب.. لا أعرف المستحيل

TT

مواطنو الدولة هم أصحابها وسيظلون كذلك إلى الأبد، بينما الحكومة ضيف ينبغي عليه أن يغادر المشهد إذا ما أراد صاحب الشأن ذلك. وحاكم مثل القذافي حكم بلاده 42 عاما، عليه أن يغادر المشهد الآن وإلى الأبد. هذه هي القاعدة الذهبية للتاريخ. بيد أن منطقتنا، ولسوء الحظ، ابتليت بعدد من الحكام ظنوا بعد وصولهم إلى السلطة، أن هذه الدول صارت ملكا لهم إلى الأبد. ولهذا السبب كان مبارك يخطط لنقل السلطة إلى ابنه جمال كخليفة له. وخطط القذافي لتعيين إما سيف الإسلام أو ابنته عائشة، أما حافظ الأسد فخطط في البداية لترشيح باسل الأسد خليفة له، وبعد وفاة باسل خلف بشار والده.

هذه النوعية من الحكام يعتقدون أن البلاد باتت ملكا شخصيا لهم وأن على الأفراد أن يكونوا في خدمتهم. وظنوا أن الروح الحقيقية وهوية بلادهم لا معنى لها من دونهم أو من دون وجودهم. وخلال المقابلة الأخيرة مع التلفزيون السوري، التي نشرتها وكالة «سانا»، قال بشار الأسد: «إن ما يطمئن اليوم هو وعي الشعب السوري الذي حمى الوطن وأفشل مخطط إسقاط سوريا موضحا أن الوضع من الناحية الأمنية أفضل وأنه تم تحقيق إنجازات أمنية مؤخرا لن يعلن عنها الآن لضرورة نجاحها».

يقول السوريون إننا نرغب في تغيير النظام - إسقاط النظام - فيما يقول بشار «إسقاط سوريا»، وقد تكررت عبارة إسقاط سوريا في مقابلة الأسد. وبدا لي أن هذا هو المفتاح الذي يمكن استخدامه لفتح هذا القفل المعقد. وأن هذه هي نتيجة القوة المفرطة. ففي حالة القذافي، على سبيل المثال، أعتقد أن عبد السلام جلود يعرفه، ويعرف هويته أفضل من أي شخص آخر. كان الرائد عبد السلام جلود صديقا مقربا من القذافي منذ أيام المدرسة الابتدائية في سبها. وقد دخلا إلى الكلية العسكرية في بنغازي حيث شكلا نواة الضباط الأحرار، الذين قاموا بانقلاب عسكري في سبتمبر (أيلول) 1969 وشنوا الثورة الليبية. وهو ما يعني أن جلود يعرف القذافي أفضل من أي شخص آخر. وقد أجرى جلود مقابلة في 21 أغسطس (آب) أكد فيها على أن القذافي يعاني من الأنانية، وأنه ميكافيلي ويعتقد أن الحقيقة المطلقة في قبضته، وأخيرا يعيش القذافي في عالم من الكآبة. أما موسى كوسا وزير الخارجية الليبي السابق فقال إنه يتفق مع جلود فيما ذهب إليه في وصفه للقذافي.

وليس أدل على صدق ما قالوا ما ذكره القذافي في رسالته الأخيرة عندما قال «اخرجوا من بيوتكم، اخرجوا. مليون، مليون يا الله مليون».

كان يريد تطهير ليبيا زنقة زنقة، وهو يعلم الآن أين يختبئ القذافي وربما في زنقة غير معروفة. نكست الأعلام الخضراء وأخذ الأفراد يدوسون عليها وعلى صور القذافي. وبات الشعب الليبي يردد الآن: «نحن أحرار، نحن سعداء. لقد دمر الشعب الإمبراطورية الكرتونية». وتوافد الليبيون بأعداد كبيرة لا لدعم القذافي بل للإطاحة به. وفي الوقت الراهن يرى القذافي السراب الحقيقي أمامه. فيقول القرآن الكريم:

«وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ» (سورة النور: 39(.

جاء الملايين من الأفراد بجراحهم ودموعهم. جاءوا من بيوتهم وزنقاتهم، وكما يقول عبد الوهاب البياتي:

لكن أبو العلاء

وهو يراني في ثياب الأسر

ينهش صدري النسر

منتظرا مع الملايين طلوع الفجر

بدأت عملية فجر عروس البحر، فجر يوم الأحد. وتحول القذافي، الذي اعتبر نفسه زعيما للعالم العربي وملك ملوك أفريقيا والفيلسوف الأخضر والثوري الاشتراكي الوحيد في العالم ومؤلف الكتاب الأخضر، إلى طريد الآن في زنقة في مكان غير معروف. لقد طرده الليبيون من التاريخ بل وحتى من الجغرافيا. والآن يبحث القذافي عن زنقة واحدة آمنة.

مصير القذافي دليل جديد يؤكد أن القوة المطلقة تجعل الحكام قادة صما وعميانا. هذه هي هوية السلطة المطلقة التي لا تقبل النقاش أو المساءلة. لقد تحول باب العزيزية، معقل القذافي الحصين في طرابلس، إلى أقل وأوهن من عش عنكبوت. وقد عبر اللورد أكتون عن وجهة نظره في رسالته إلى القس ماندل كريتون في عام 1887 قائلا: «القوة تميل إلى الإفساد، والقوة المطلقة مفسدة مطلقة، والرجال العظام عادة ما يكونون رجالا سيئين».

أخبر عيدي أمين وزيرا ذات مرة أنه أقوى من رئيس الولايات المتحدة، لأنه يستطيع قتل أي شخص يريد لكن الرئيس الأميركي لا يستطيع صفع طفل على وجهه. وكان القذافي نسخة من عيدي أمين، مع مليارات من أموال النفط الليبي. وزعم في رسالته الصوتية الأخيرة أنه يمشي في شوارع طرابلس، وأعتقد أن الأوان قد فات الآن. كان عليه أن ينزل إلى الشارع ويستمع إلى شكاوى الناس عندما كان في باب العزيزية في بيت الصمود. والمذهل أن القذافي تحدث في كتابه الأخضر - لا يهم من كتبه - عن اللجان الشعبية. جاء في الفصل الثاني من الكتاب:

«إذا كانت أداة الحكم ديكتاتورية كما هو الحال في النظم السياسية في العالم اليوم، فإن يقظة المجتمع للانحراف عن الشريعة ليس لها وسيلة للتعبير وتقويم الانحراف إلا العنف، أي الثورة على أداة الحكم.. والعنف أو الثورة حتى إذا كان تعبيرا عن إحساس المجتمع حيال ذلك الانحراف، إلا أنه ليس كل المجتمع مشاركا فيه، بل يقوم به من يملك مقدرة على المبادرة والجسارة على إعلان إرادة المجتمع.. بيد أن هذا المدخل هو مدخل الديكتاتورية، لأن هذه المبادرة الثورية تمكن بحكم ضرورة الثورة لأداة حكم نائبة عن الشعب، ومعنى هذا أن أداة الحكم ما زالت ديكتاتورية.. علاوة على أن العنف والتغيير بالقوة في حد ذاته عمل غير ديمقراطي، ولكنه يحدث نتيجة وجود وضع غير ديمقراطي سابق له. والمجتمع الذي ما زال يدور حول هذه المحصلة هو مجتمع متخلف.. إذن، ما هو الحل؟ الحل: هو أن يكون الشعب هو أداة الحكم.. من المؤتمرات الشعبية الأساسية إلى مؤتمر الشعب العام، وأن تنتهي الإدارة الحكومية لتحل محلها اللجان الشعبية، وأن يكون مؤتمر الشعب العام مؤتمرا قوميا تلتقي فيه المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية. وإذا حدث انحراف عن شريعة المجتمع في مثل هذا النظام يعالج عن طريق المراجعة الديمقراطية وليس عن طريق القوة. والعملية هنا ليست عملية اختيار إرادي لأسلوب التغيير أو المعالجة، بل هي نتيجة حتمية لطبيعة النظام الديمقراطي هذا، إذ إنه في مثل هذه الحالة لا توجد جهة خارج جهة أخرى حتى توجه لها أعمال العنف أو تحملها مسؤولية الانحراف».

ما وصفه القذافي بالفعل جنة خضراء، لكنه خلق في الحقيقة أسوأ جحيم ممكن لليبيين. والآن فإن الجيل الجديد في ليبيا يدوس على الأعلام الخضراء لأنهم يعلمون أنه كان اللون الأكثر كآبة في تاريخ ليبيا.

كانت الثورة الليبية العظيمة هي اللجان الشعبية الحقيقية، وأفضل أدلة على إثبات هذا هي الصور والأفلام التي شاهدناها على مدار الأيام الماضية، وفيها رجل عجوز وشاب وكل الليبيين متحدون. هذه حقبة جديدة، وما من شك في أن ليبيا من دون القذافي وعائلته ستكون مكانا أفضل للجميع وقبل كل شيء لدولة ليبيا.