لو أن الله أحيا السادات!

TT

طرأ على ملف العلاقات بين القاهرة وتل أبيب ما جعله يتوتر، على مدى الأيام الماضية، لأول مرة، منذ تخلي الرئيس السابق حسني مبارك عن الحكم، في 11 فبراير (شباط) الماضي، وقد كنت، في كل لحظة من لحظات توتر العلاقات، أتخيل الرئيس السادات، وكيف أنه، لو كان حيا بيننا، سوف يتصرف تجاه الحدث، بشكل مختلف!

وقد كان هذا الملف بين البلدين، ملف سياسة خالصة، قبل أن يكون ملف حرب، أو ملف أي شيء آخر، ولذلك، كان ولا يزال في حاجة إلى عقلية سياسية، تتعامل معه، على نحو ما كان السادات قد فعل، حربا وسلاما على السواء!

وما أقصده بالحرب والسلام هنا، هو أن السياسة، بوصفها «فن الممكن» كانت هي الحاكمة، لسلوك السادات، سواء في حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 أو عند توقيع معاهدة السلام، بين مصر وإسرائيل، عام 1979.

في الحالتين، لم يكن السادات عاطفيا، ولا كان يدغدغ مشاعر الناس، ولا كان يزايد عليهم، ولا كان.. ولا كان.. إلى آخره.. كما يفعل بعض الذين يتصرفون إزاء الموضوع كله في القاهرة هذه الأيام، وإنما كان الرجل واقعيا، ثم كان سياسيا من الطراز الأول، وكان لهذا السبب، قد قرر خوض الحرب باعتبارها في حينها، هي الممكن والمتاح أمامه، فلما تبين له، أنها لم تعد ممكنة، توقف عنها، وراح يمارس فن الممكن، مع إسرائيل، على مستوى آخر، هو مستوى السلام، حتى استرد أرضه، في حدود ما هو ممكن، ومتاح - مرة أخرى - في زمانه، وليس في حدود الشعارات الزاعقة، أو العبارات الرنانة، التي قد تفرقع في الهواء ولكنها في النهاية، لا تؤدي إلى شيء عملي على الأرض.

تراوحت النداءات، خلال الأزمة الأخيرة بين البلدين، ما بين طرد السفير، تارة، وإلغاء معاهدة السلام، تارة أخرى، وكان النداء من جانب الجماهير، في كل حالة، كما ترى، متطرفا فيما يريده ويذهب إليه، ومثاليا بأكثر من اللازم، وعاطفيا في تناول مسألة لا تجوز أن تكون خاضعة للعاطفة في أي مرحلة من مراحلها، وقد وقع هذا كله، دون أن تتمكن الحكومة في «القاهرة» من فعل شيء سياسي، يهدئ من غضب الجمهور، ويقلل من سخطه، وإنما كانت الحكومة - مع الأسف - ترتبك، وتتخبط، وتفعل الشيء وعكسه في توقيت واحد، بما يدل على حالة عجز، أكثر منها حالة من حالات القدرة.

كانت الجماهير تنتفض في الشارع تعبيرا عن غضبها، بسبب سقوط خمسة من الضباط والجنود المصريين قتلى على الحدود برصاص إسرائيلي، وكانت الحكومة تفكر، وتفكر، ثم تقرر استدعاء السفير الإسرائيلي في القاهرة، فإذا به غير موجود أصلا فيها، وإذا بالقائم بالأعمال هو الذي يتوجه إلى الخارجية المصرية، وحين يتبين للحكومة أن الاستدعاء – كإجراء - غير كاف لامتصاص وجع الناس، تضع على موقعها الإلكتروني ما يفيد بأنها، كحكومة، قررت سحب السفير المصري في تل أبيب، ثم بعدها بساعة، تقرر العودة عن الخطوة، ولا يعود أحد من متابعي الملف في إجماله، داخل البلد وخارجه، يعرف بالضبط، موقف الحكومة المصرية من شأن بهذا الحجم على حدودها المباشرة!

الحادث، في حد ذاته كان فيما أظن، نوعا من الاختبار المقصود، أو غير المقصود، من جانب الحكومة الإسرائيلية، للسلطة المصرية الجديدة، بعد ثورة 25 يناير، وكان الذين يحكمون في تل أبيب يريدون أن يروا، ما إذا كانت القاهرة بعد الثورة سوف تتصرف مع حدث من هذا النوع، على نحو ما كان النظام الحاكم يفعل قبل الثورة، أم أن التصرف سوف يكون مختلفا، خصوصا أنه، كحدث، ليس الأول من نوعه، وإنما كانت أحداث مماثلة، بل ومطابقة، قد سبقته أكثر من مرة!

حتى الآن، لم يختلف رد فعل القاهرة، عن رد فعل النظام السابق، وهو رد فعل كان يتلخص في كل مرة، في تحذير إسرائيل، من تكرار الأمر، وفي إعلان الغضب الرسمي النظري، لاستيعاب الغضب الشعبي، لا أكثر، إلى أن تهدأ الحكاية، بمرور الوقت، فينشغل الناس بأمر آخر طارئ، وإلى أن يستيقظوا على تكرار الحادث، بالصورة نفسها، مرة أخرى، فيتكرر ما سبق، من حيث رد الفعل، وهكذا.. وهكذا.. دون وجود رصيد للتعلم من التجربة!

هذه المرة، كان الغضب الشعبي عارما، وكان ذلك عائدا إلى أن الذين غضبوا يعرفون أن ثورة قد قامت في البلاد، وأن ما كان يجوز قبلها، على هذا المستوى، لم يعد جائزا بعدها، لا من الحكومة في تل أبيب، ولا من الحكومة في القاهرة، فإذا بنا، وكأن ثورة لم تقم، من أساسه، بل ويزيد على ذلك، أن الحكومة المصرية تخبطت، وهي تتصرف، بما ضاعف من الإحساس بعجزها!

وربما كان استحضار السادات، في الذاكرة، أثناء متابعة الموضوع، يرجع إلى غياب «العقل السياسي» في معالجة المسألة، من أولها لآخرها، من جانب القاهرة.. والغريب أن تل أبيب تصرفت من جانبها، من خلال عقل سياسي، غاب عن العاصمة المصرية، وكان ذلك واضحا، عندما أعرب وزير الدفاع الإسرائيلي، عن أسفه، تجاه ما حدث، ثم أعلن الرئيس الإسرائيلي أسفه أيضا، وكأن الاثنين أرادا أن يقولا إن هذا هو ما في إمكاننا أن نفعله، وإنه ليس في مقدورنا أن نذهب لأبعد منه!

في المقابل، لم يكن أحد من العقلاء الذين تابعوا تصاعد الحدث، في القاهرة، يريد إلغاء المعاهدة، ولا حربا، ولا شيئا من هذا القبيل، وإنما كنا نريد، ولا نزال، عقلا سياسيا مشابها لعقل السادات، في الاشتباك مع الملف، وحين يقال شيء، في هذا السياق، عن العقل السياسي، فالقصد هو أن يكون التصرف، في حدود ما هو ممكن، وما هو متاح، وهو بالمناسبة، كثير، ويكفي لاستيعاب سخط الناس.

كان السادات، لو أن الله سبحانه وتعالي أحياه بيننا، قادرا على أن يطلب مراجعة أسعار الغاز المصري الذي يجري تصديره إلى إسرائيل، إذا كان لا بد من تصديره، وأن يكون ذلك في مدى زمني له أول، وله آخر، كما حدث مع الأردن بالفعل، وكان هذا في حد ذاته، كافيا، ولو بدرجة ما، لاحتواء الغضب بين المصريين!

وكان السادات يرحمه الله، قادرا لو أن الله تعالى أحياه بيننا، على أن يطلب مراجعة نصوص معاهدة السلام، بمنطق هذا الزمان، وليس بمنطق زمان توقيعها، بما يتيح للحكومة المصرية، أن تعمل على تأمين حدودها، بشكل كافٍ، وكان هذا أيضا، في حد ذاته، كافيا كخطوة عملية، لاحتواء غضب ظل يتزايد، بين المصريين، دون احتواء من جانب الحكومة الجالسة في مقاعد السلطة.. وكان السادات قادرا، على أن يراجع اتفاقية «الكويز» ذات الطابع الاقتصادي، بين البلدين، وكان قادرا، أيضا، على استدعاء السفير المصري للتشاور، وكانت هناك خطوات كثيرة، للتعامل السياسي مع الأزمة، بما يعمل على إرضاء الذين أحسوا بين المصريين، بالاعتداء على كرامتهم، ولم يكن من بين هذه الخطوات، إلغاء لمعاهدة، ولا طرد لسفير!

الأزمة بين البلدين، هي الأزمة، ولكن أين عقل السادات، الذي كان يعي تماما، أن السياسة، باعتبارها فن الممكن بين الدول، وداخلها، تعني أن ما لا يُدرك كله، لا يُترك كله!