ربيع الثورة السوداني المبكر

TT

كما هي انتفاضة تونس التي طوحت ببن علي، وانتفاضة مصر التي أقصت مبارك، وانتفاضة ليبيا التي تركت القذافي طريدا شريدا، كان السودان رائد الربيع العربي بلا منازع وبانتفاضة سلمية مبهرة مبكرة طوحت برئيس ديكتاتور هو جعفر نميري الذي جثم هو الآخر على قلوب السودانيين سنين كسني يوسف. لكننا، معشر العرب، ذاكرتنا قصيرة، ربيع السودان في الثمانينات قدم زهرة انتشى بعبق أريجها كل الشعوب العربية وهي لا تكاد تصدق؛ المشير عبد الرحمن سوار الذهب، الذي استجاب للانتفاضة الشعبية السودانية وأطاح بالرئيس نميري في 1985 وتولى مقاليد الحكم وترأس مجلسا انتقاليا، نفس مسمى المجلس الانتقالي الليبي، ووعد بتسليمها للحكومة المنتخبة، لم يصدقه حينها الأغلبية الساحقة من العرب والعجم. فخيب سوء ظنهم فيه ولم ينتش بخمرة السلطة، فقدمها طواعية لرئيس الوزراء المنتخب الصادق المهدي، وترجل من الحكم في عز قوته، لم يتخلف عن وعده يوما واحدا. هو ربيع سوداني مبكر، لكن للأسف أعقبه خريف ديمقراطي باهت ثم شتاء عسكري قارس فتساقطت أوراق الربيع السوداني الذي سقاه سوار الذهب، فكان قدر السودان أن يكون ربيعه بقيادة الرجل الذهبي مبكرا، ولو تأخر إلى ربيع الثورات العربية لكان الحال غير الحال.

الذي جعلني أنفض الغبار عن تاريخ سوار الذهب، الزعيم التاريخي العربي، هو الغبار الذي أثارته الانتفاضات العربية الأخيرة، وهو التوصيف الأكثر دقة من مصطلح «ثورات»؛ فعدد من القراء كتبوا لي واتصلوا عاتبين (وهم غير سودانيين) كيف أنني نسيت هذا الرجل الذهبي ولم أضمه إلى مانديلا ومهاتير، فقد سبق أن أشرت، في مقال سابق، إلى نموذجين مميزين أعجميين من عالمنا الثالث (مانديلا ومهاتير) وقلت حينها: يكفي عالمنا الثالث فخرا وجود هذين النموذجين العالميين لزعيمين ترجلا برغبتهما من مركب السلطة، وقد حفرا حبهما في قلوب الجماهير من دون الحاجة إلى حشد الجماهير ونظم قصائد المديح وبث الأهازيج وتعليق الصور الكبيرة وتدبيج عبارات التمجيد في المانشيتات الضخمة.

وأنا أتفق تماما مع ملاحظة القراء، وبصراحة فأنا لم أنس «السوار الجميل» وتجربته الثرية حين كتبت المقال، لكني لم أجد سوار الذهب يشبه مانديلا في الإرث التاريخي كما لم يشبه مهاتير في الإنجاز التنموي، فتلكأت في ضمه إليهما، وهذا خطأ؛ لأنني حين أثنيت على مهاتير ومانديلا كان في معرض الترجل عن السلطة طواعية، وهذه مزية يشاركهما فيها سوار الذهب بامتياز.

هذا الزعيم النبيل له قصة جميلة في نظافة اليد، لو قرأتموها من دون اسمه لظننتموها من قصص ورع الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز؛ فعندما سلم مقاليد السلطة للحكومة المنتخبة كتب لرئيس الوزراء خطابا قال فيه إن الملك فهد، يرحمه الله، قد أهداه والوفد المرافق، في زيارة رسمية للسعودية، قطعا من كسوة الكعبة واستأذنه بالاحتفاظ بها؛ لأنه يدرك أنه لو جلس في بيت أمه، كما ورد في الحديث، ما كان ليحصل على هذه الهدية فقدم جردا صادقا وشفافا. أنا ذكرت قبل قليل عمر بن عبد العزيز الذي شرقت شهرة عدله وغربت مع أن خلافته لم تستمر إلا سنتين فقط، وسوار الذهب لم يمكث إلا سنة واحدة وعمرت ذكراه عقودا.

ما أجمل السودان حين يتقلد سوارا ذهبيا، ويا ليته تقلده بعد أن سقط من معصمه.

[email protected]