هل فات في سوريا وقت التغيير من داخل النظام؟

TT

«من دون التغيير فإن شيئا ما بداخلنا ينام ونادرا ما يستيقظ، بينما على المرء أن يستيقظ»

(فرانك هربرت)

* طبيعي جدا أن تقلق بعض الجهات الدولية على نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا. ومن الطبيعي أيضا أن تتخوف جهات محلية وإقليمية من عواقب سقوطه. فالنظام السوري الحالي، بجيليه الأول والثاني الذي هو امتداد أقل حصافة وأكثر ميلا إلى المغامرة من سابقه، ملأ حيزا سياسيا إقليميا لمدة تزيد على أربعة عقود. وورث الجيل الثاني وحمل حتى اليوم تركة ثقيلة من الممارسات السيئة حكوميا وحزبيا وفرديا.

عالم السياسة يكره «الفراغ» ويخشاه. ونظام دمشق بجيليه أشرف على حقبة طويلة ألغى فيها واقعيا أي «ثقافة سياسية» مؤسساتية تقوم على مبادئ فصل السلطات وتداول الحكم وحماية المجتمع بقواه الذاتية الفاعلة والواعية بمعزل عن رضا «قيادة تاريخية» أحادية أفهمت الشارع بشتى الطرق باستحالة الاستغناء عنها والعيش خارج ظلها.

على امتداد أربعة عقود وأكثر، كان «القائد» يفكر نيابة عن الشعب - الممنوع من التفكير -، وبالتالي، يقرر عنه ويناور باسمه، فيبني تحالفات هنا ويزرع عداوات هناك ويعقد صفقات، هنا وهناك، مع أي كان ولقاء أي ثمن مناسب، شرط الإبقاء على «ورقة توت».. اسمها «الممانعة».

وفي ظل انعدام القدرة على التفكير المستقل، بالكاد سأل سائل عن معنى «الممانعة» إذا كان السلام - كما كان الرئيس السابق حافظ الأسد يكرر - «خيارا استراتيجيا»؟!

وبوجود «الحزب القائد»، المضمونة هيمنته دستوريا على مختلف أجهزة الدولة، قلما شكك أحد بقيمة تمثيل أحزاب «كومبارس» تحت خيمة «جبهة وطنية».. و«تقدمية»، في برلمان مهمته الأساسية المبايعة والهتاف.. ولا يعبر عن الشورى والديمقراطية إلا بالشكل، وآخر همه التعددية والشفافية والمحاسبة.

بل إن من درس مسيرة «الحزب القائد» الحافلة يحق له أن يسال، بأمانة، عن أي علاقة تربط القيادة الحالية بتاريخ الحزب وتراثه، وذلك لفرط ما تشقق وانقسم على نفسه.. فخرج منه من خرج، وسجن من سجن - غالبا بلا تهم -، واغتيل أو «انتحر» أو صُفي كل من حان أجله.

ثم إذا كانت العلمانية والاشتراكية، بجانب العروبة، في قمة أولويات «الحزب القائد»، فكيف انتهت حقبة «الأربعة عقود وكسور» باستفحال الطائفية كما تخبرنا وسائل الإعلام الرسمية، وكيف تكدست الثروات الطائلة عند المقربين والمحاسيب.. كي لا نشير إلى غيرهم، وكيف تدهورت علاقات سوريا بعالمها العربي؟

وحول الطائفية، بالذات، إذا كان النظام الذي يعتبر نفسه منزها عن الطائفية قد بات الملاذ الأخير للأقليات الدينية والمذهبية في الشرق الأوسط.. فهل منجزاته «العلمانية» في لبنان أولا والعراق ثانيا وفلسطين ثالثا.. كافية لبث الطمأنينة في قلوب أبناء الأقليات داخل سوريا؟

قرب نهاية الأسبوع الماضي حذر السيد حسن نصر الله، أمين عام حزب الله اللبناني من تغيير النظام في دمشق بحجة أن غيابه عن المشهد الإقليمي سيفتح باب الفتنة في عموم المنطقة (؟!) وأن تغييبه يصب في خانة خدمة مخططات إسرائيل، ثم صدر كلام بالمعنى نفسه عن وزير الخارجية الإيراني الدكتور علي أكبر صالحي. أما موسكو فما زالت تناور لتعطيل أي قرار رادع في مجلس الأمن الدولي من شأنه حقن دماء السوريين، وتوجيه الرسالة الوحيدة التي يمكن أن تغير سلوك قيادة ترفض حتى اللحظة الاعتراف بسقوط ضحايا مدنيين في القمع المستمر منذ ما يقارب الستة أشهر.

موقف السيد نصر الله مفهوم، فهو أيد نظام دمشق علنا يوم 8 مارس (آذار) عام 2005 حتى عندما كانت غالبية الشعب اللبناني - بما فيها تابعه «البرتقالي» اليوم - تتهمه بهدر دم رفيق الحريري ورفاقه. ثم إن حزب الله ما كان ليحقق سيطرته على مقدرات الدولة، بل يلغي الوجود الفعلي للدولة، لولا العلاقة الاستراتيجية بين دمشق وطهران. وهذه علاقة تدرك القوى العالمية الكبرى حقيقتها جيدا مع أنها اختارت غير مرة تجاهلها والتقليل من شأنها. ويبقى أن إلغاء وجود «الدولة» ومؤسساتها في لبنان هدف مشترك بين دمشق و«الحزب» ومن خلفهما، وأيضا من يدعي عداوتهما معا.. مع أنه المستفيد الأكبر من الوضع الإقليمي الراهن.

وعطفا على ما سبق، يصبح بديهيا الموقف الرسمي الإيراني الذي يربط صدقيته في العالم الإسلامي وأجزاء واسعة من العالم العربي، برفعه شعارات على غرار «تحرير فلسطين» و«مواجهة أطماع الغرب».

وتاليا بما يخص روسيا، مع تذكر التنافس الطويل والمضني بين موسكو وواشنطن، واستخفاف واشنطن بالمصالح الحيوية الروسية بعد حسم واشنطن «الحرب الباردة» لصالحها - وتحديدا في البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى -، لا يعود مستغربا حرص «الكرملين» على ابتزاز القيادة الأميركية ومشاكستها. وما يغري على ذلك أكثر وجود رئيس ديمقراطي ليبرالي في «البيت الأبيض». إن ما تفعله موسكو اليوم داخل مجلس الأمن وخارجه في الشأن السوري متصل أساسا بالحسابات والمستحقات الأميركية - الروسية.. وليس بسبب «محورية» سوريا في المعادلة الدولية.

استيعاب دمشق هذا الواقع أمر مستبعد، لأن نظام الأسد - الذي ألغى أخيرا وجود أوروبا عن الخريطة - ما زال مقتنعا بأن في يديه أوراقا يناور بها أكثر مما في أيدي خصومه. وهنا تكمن المشكلة مع الجهات التي ما زالت تحث النظام على تغيير سلوكه، أو تلك التي تتبرع من دون داع لطمأنته إلى أنها لا تنوي أن تستخدم معه غير خياري الإقناع والدبلوماسية.

في أي حال، قد يكون أفضل للشعب السوري - ولو بكلفة إنسانية عالية ومؤلمة - أن تصل المحاولات المبذولة لإنقاذ النظام من سوء تصرفه إلى طريق مسدود، فمعظم السوريين باتوا مدركين أن النظام عاجز حقا عن تغيير نفسه، وأن التغيير الكامل هو الحل الوحيد.

هذا إدراك موجود في عواصم دولية عديدة، وهي كلما عجلت بترجمته على الأرض قصرت مدة معاناة أبناء سوريا الذين فجروا أشجع انتفاضة في تاريخ العرب المعاصر.