استحالة ترجمة الفوضى إلى ديمقراطية

TT

العيب الأكبر في الانتفاضة، أو الثورة، هي الفوضى. هاك، مثلا، ملابس المقاتلين الليبيين. كأنك في مهرجان. ولست في ميدان قتال. مزيج عجيب من الملابس والأحذية. واللحى. والقبعات المدنية. والعسكرية. والرياضية.

فوضى الملابس القتالية تنم عن انعدام الانضباط العسكري. ليس هناك جيش ملتزم، وإلا لما تم الفتك بعبد الفتاح يونس. هناك انتفاضة مقاتلة. غدا، ستستدير الفصائل لمواجهة بعضها بعضا، فور الانتهاء من ملاحقة العدو المشترك.

من قتل قائد الانتفاضة العسكري. لا بيان صدر عن التحقيق. لا اتهام. السبب كون قيادة الانتفاضة المدنية ذاتها في حالة من الارتباك والفوضى.

لست ضد الانتفاضة الليبية. القذافي ارتكب خطأ استراتيجيا. محاولته غزو بنغازي بالسلاح هي التي فرضت على الانتفاضة السلمية حمل السلاح. فر المثقف أوباما من المواجهة. حسم محترفو السياسة ساركوزي. كاميرون. برلسكوني المعركة بحماية مليون مدني في بنغازي بالطيران من الجو.

تذرف الصحيفة التي أصدرها ومولها القذافي في لبنان دموع التماسيح على ليبيا، لأن «الناتو» رجح كفة الانتفاضة، وصولا بها إلى اقتحام العاصمة طرابلس. فأتلفت أعتى نظام عربي، لا يحاكيه في جبروته وقهره، سوى النظام في سوريا.

تصدر المنشقون عن نظام القذافي قيادة الانتفاضة. لا بأس. فما من خيار آخر وسط الفراغ الموحش. هذا الرجل حال دون نشوء ساسة وزعامات شعبية. صفى زملاءه في الانقلاب. فبرك نظرية قال إنها تصلح حتى لسويسرا ودول اسكندنافيا. وانتهى بها حاكما قرقوشيا لليبيا هو وأولاده.

لماذا استطاع الخوف جمع هذه القيادات عندما كانت موالية للقذافي، ولا توحدها الحرية التي جاءت بها الانتفاضة؟! لا جواب. مر أكثر من ستة أشهر على الانتفاضة، قتل خلالها عشرون ألف ليبي (الرقم لمجلس الانتفاضة الانتقالي)، ولم يصدر، بعد، عن المجلس إعلان سياسي (مانيفستو) تقدم القيادة فيه تصورها المستقبلي لليبيا.

لا يكفي القول إن ليبيا ستكون دولة ديمقراطية حرة. حملت الانتفاضة علم السنوسي. فهل الملكية عائدة؟ أم هي جمهورية مدنية؟ أم هي إمارة أفغانية طالبانية؟ كيف سيكون شكل الإدارة؟ مركزية. لا مركزية. فيدرالية فالتة؟ المجلس الانتقالي لا يقول. لم يفرض الانضباط في الميدان. ولم يحسم الارتباك في غرفة القيادة.

تجوب قوات «كوماندوس» مخابراتية أوروبية وأميركية الأرض الليبية. فهل باتت تملك معلومات عن ليبيا نجهلها نحن، ليبين وعربا؟ أم تكتفي بالتدريب والتنسيق؟

لماذا مهد طيران «الناتو» وصول انتفاضة الجبال الغربية التي يغلب عليها طابع الأمازيغ البربر، إلى طرابلس، قبل وصول الانتفاضة الشرقية التي يغلب عليها طابع القبائل المصرية - الليبية؟ هل الغرض التمهيد لتمزيق ليبيا المستقبل إلى فيدرالية ضعيفة في المركز، وانفصالية. استقلالية في الأقاليم، تحت ذريعة تلبية المطالب الثقافية للأقليات؟ أم الغرض استكمال مشروع القذافي الأفريقي، بمحو عروبة ليبيا، وانتمائها القومي؟

ثم لماذا تم توجيه قوات الانتفاضة بسرعة. وبكثافة، إلى مدينة سرت ومنطقتها؟ لماذا عمد الناتو فورا إلى قصف القبائل المؤيدة للقذافي، قبل استكمال الحوار السلمي معها، لإقناعها بالتخلي عنه وعن نظامه؟ لا شك أن الحل العسكري للغز اختفاء القذافي قد يعمق ثقافة التناحر الموغلة إلى قاع العشيرة والقبيلة، في التاريخ العربي.

أيضا، تمويل الانتفاضة لغز محير. تم تجميد مليارات الدولارات الليبية، بقرار سيادي أوروبي - أميركي. لماذا لا يتم الإفراج عنها، بقرار سيادي مماثل لتمويل الإدارة الحكومية المؤقتة؟ لماذا تتذرع أميركا بالحاجة إلى قرار دولي من مجلس الأمن، وهو على هذه الحالة من الانقسام والعجز عن اتخاذ قرار؟ هل هناك شكوك أميركية - أوروبية متخوفة، من احتمال تسرب جانب من هذا المال، إلى فصائل موالية لـ«القاعدة» في بلدان المغرب العربي؟

أهرب إلى مصر المحروسة من هواجس مجنون بليلى الليبية، وهو لا يدري إن كانت هذه الأسئلة والاستفهامات تعبر عن قلق نفسي لا ضرورة له. فقد لا تنطبق على الواقع في صحراء الشوق والشك الليبية.

في مصر أيضا وضع مشابه. التنظيمات الشبابية التي صنعت الانتفاضة بجر ملايين الناس من الإنترنت، مشيا إلى ميدان التحرير، هي أيضا عاجزة عن ترجمة الفوضى إلى ديمقراطية مستقرة ومزدهرة.

الخوف الشبابي على ليبرالية الانتفاضة، هو تعبير العجز عن الانتظام في بوتقة حزب ديمقراطي. جماهيري. ذي مبادئ سلمية معلنة. من هنا، كان لجوء الشباب إلى تجنيد الصوفية ضد السلفية! ومحاولة الإيقاع بين السلفية والإخوانية التي خطفت الانتفاضة، وباتت تهدد، بانضباطها وخبرتها الانتخابية، باكتساح المقاعد النيابية، لتفرض دستور «دولة مدنية ذات مرجعية دينية». ما أبرع الإخوان في نحت شعارات براقة يعجزون عن ترجمتها إلى تفاصيل عملية، في الممارسة والتطبيق!

قبل فض العسكر للمشهد، تحول ميدان التحرير إلى مهرجان فولكلوري. مزيج بشري ملون لملابس رياضية مشدودة، وأخرى دينية فضفاضة، فوقها أصحاب لحى كثة.

فوضى الملابس واللحى تعبير عن فوضى الأفكار، وصراع الرؤى. تسييس الصوفية والسلفية جلب الملايين من الأضرحة والمساجد، وزجها في محترَف السياسة، من دون معرفة لها بفن المساومة والتسوية السلمية، بلا تكفير. بلا إكراه. بلا تدخل في حياة الناس اليومية. وبلا قولبة لعلاقات التواصل الاجتماعي. وبلا تشييد سقف واطئ فوق العقل والثقافة.

إلى أين المهرب من الفوضى؟! المشهد، في سوريا كوميديا سوداء. كلما ألقى حكواتي النظام خطابا، خرجت الانتفاضة إلى الشارع احتجاجا. كلما تجمهر الناس قنصهم القناصة. كلما دعا الحكواتي الشيخ البوطي وبطانته، إلى مأدبة إفطار، هتفت الشبيحة مع طبلة السحور: «لا إله إلا بشار». حتى الألوهية والقداسة يجري إسباغهما بالوراثة.

هناك شيء من «الربوبية» في هذا النظام. باسم «الحق الوراثي المقدس»، ما زال الوارث مقتنعا بأن مافيا الفساد تستطيع أن تقود عملية الإصلاح، من دون تقديم «تنازلات» إلى الشعب، أو الغرب. حكواتي النظام لم يعد لديه ما يتنازل عنه، سوى شركة توزيع وتسويق النفط. تكتشف هنا أن السوريين لن يلحق أذى مالي بهم. فالشركة يديرها مدير نزيه. وكفء، من آل مخلوف.

تبقى «كلمة جد» تلقى في مسامع أوباما. هيلاري. كاميرون. ساركوزي. أردوغان: الحل ليس في قرار دولي بفرض منطقة عازلة. إنما بقرار دولي بفرض حظر جوي على اقتحام دبابات ماهر الأسد المدن والقرى. وتحريم استخدام أسلحة القتل الجماعي، من مدافع وقذائف، ثم في إدراج أسماء جلادي الأقبية. إلى جانب اسمي ميلوزيفتش وكراديش، لدى محكمة الجرائم الدولية.