بشار الأسد.. شكرا!

TT

بين «كأن لم يكن»، و«نسيان أن أوروبا موجودة على خارطة العالم»، يمشي خطاب السلطة السوري في وادٍ غير ذي زرع، لا ماء فيه ولا كلأ، لا عقل ولا واقع، لا أخلاق بالطبع.

كان الرد الرسمي للسلطة السورية، عبر مندوبيتها في الجامعة العربية، على البيان الوزاري العربي حول «الكارثة» السورية، ردا خاليا من العقل، وخشنا، يفتقد أدنى درجات الإحساس بالواقع والاتصال به.

الجامعة العربية، كما يرى كثير من الثوار السوريين، تحاول إنقاذ سلطة بشار الأسد، وليست، في العمق، مع الثورة الشعبية، خصوصا بعد زيارة أمينها الجديد، «الثوري الهيكلي الناصري» نبيل العربي، إلى دمشق، وخروجه من قصر الأسد وهو يهلل لمصداقية بشار الأسد، الأمر الذي أثار حنق الكثير من الناس ضد نبيل العربي، خارج سوريا قبل أن يكون ذلك داخلها، ليعود العربي محاولا إنقاذ سمعته، والحديث بلغة الاعتذار الشهيرة: «لقد اقتطع كلامي من سياقه وحرف عن مقصوده... إلخ».

مع هذا كله لم يخيب الأسد الأمل، وكان عند حسن الظن به كالعادة؛ حيث بادر إلى التعنت والتصلب، والإصرار على اعتماد روايته الخاصة للكارثة السورية، وهي أن هناك بعض العصابات المسلحة يتم التعامل معها أمنيا، بالطبع هناك، وفقا للراوية الأسدية، «مؤامرة» تستهدف سوريا، ما هذه المؤامرة؟ ولماذا؟! ولو.. يا عيب الشوم! إسرائيل طبعا، الصهيونية، الإمبريالية، عملاء الغرب، مجتمع الشر العالمي.. حسنا هل نسينا طرفا؟! ولماذا يتآمرون عليك وعلى نظامك أنت بالذات؟! بسيطة: المقاومة والممانعة هي السبب. عال.. ممتاز، أين قاومت؟ وأين حاربت يا فخامة الرئيس؟ حسبما نعرف فإن الطائرات الإسرائيلية كانت تسرح وتمرح بجوار قصر الشعب، وقصفت الرادارات السورية مرارا وتكرارا، وقصفت ما قيل إنه «مشيريع» مفاعل نووي بمساعدة كورية شمالية، ولم تحرك ساكنا، فقط بضعة بيانات خشبية وبطولات من ورق وحناجر، طبعا لن نتحدث عن جبهة الجولان الهادئة الساكنة منذ عهد المرحوم الوالد.

باختصار: خطاب السلطة رث وهش، ومستفز لمن يمكن أدنى مسكة من عقل، بسبب كمية الاستغباء الكثيفة فيه.

الأهم من هذا أن الصور لم تعد تخفي شيئا، ونحن نرى رأي العين فعلا فظائع النظام السوري يوميا، خصوصا بعد كل خطاب يلقيه الدكتور بشار عن الإصلاحات و«الحزم» و«الشرائح»... إلى آخر هذه المفردات الثلجية، وكأنه يتحدث عن توسيع شارع أو تحديد نسب وقياسات محلات الفاكهة والخضار من قبل البلدية، وليس عن قصف البيوت بالدبابات وتشريح جثث الأطفال ومخازي الشبيحة في البلاد والعباد.

مع كل هذه المعطيات، التي تضع نظام الأسد في الزاوية الحرجة، وتجعله يتصرف، كما يفترض، بمنطق الأزمة، وليس بلغة باردة ميتة، إلا أنه يصر على التظاهر بالهدوء والطبيعية.

من هنا، فإن إصرار النظام على التجاهل وإغلاق الأعين عن حقائق الأمور يفتح على أزمة أكبر في منطقتنا وثقافتنا العربية، وهي ثقافة الإنكار والتجاهل، وهنا يصبح الحديث ليس فقط عن نظام بشار الأسد، بل عن حالة ثقافية وشيمة نفسية عربية عامة، لا يناسب المقام التوقف عندهما، بل الإشارة لهما من بعيد فقط.

حينما صدرت العقوبات الأوروبية على النظام الأسدي، خرج وزير خارجية النظام، وليد المعلم، وقال: سننسى أن أوروبا على الخارطة، وحينما خرج بيان الجامعة العربية الوزاري، على ما فيه من محاولة ضمنية لإنقاذ النظام لكن بغير طريقة النظام، إلا أنه غضب وصعد وقال إن البيان «كأن لم يكن»!

كيف يكون البيان كأن لم يكن وهو قد كان بالفعل؟!

نحتاج إلى إجلاس النظام كله، من رأسه إلى شبيحته، على سرير التحليل النفسي لنفهم دوافع وخلفيات مثل هذه التصرفات فعلا.

سبق، في هذه المساحة نفسها، أن تذكرت حكيمنا العربي الكبير الشاعر المتنبي في حالة الإنكار الأسدية، حينما رأى الجميع هذه الحالة الغريبة من بشار الأسد، الذي كان الأبرز في مسلسل الإنكار والمخادعة، لقد رأى العالم كله - بما فيه الأنظمة التي بذلت المساعدة لهذا الديكتاتور الشاب لتجنيبه المصير الصعب - أن الأسد هو الوحيد الذي قرر أن يخاطب نفسه ويلقي المحاضرات عليها، وينسج الرواية التي يريد ثم يعتقد أن العالم كله مقتنع بروايته هو!

الكذب على الذات والاستمرار في هذا الكذب سلوك نفسي دفاعي معتاد للإنسان عند حصول أمور لا يرغب فيها أو تخيفه، لكنه إجراء مؤقت سرعان ما يذوب تحت شمس الواقع، وقد لخص أبو الطيب المتنبي هذا المعنى حينما أراد إنكار خبر وفاة عزيز عليه، فقال:

طوى الجزيرة حتى جاءني خبر

فزعت فيه بآمالي إلى الكذب

حتى إذا لم يدع لي صدقه أملا

شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي

ومع الفرق الكبير بين إنكار الشاعر لحادثة فردية خاصة، وإنكار الديكتاتور لواقع شعبه والتحديات المحيقة بالدولة والمجتمع، إلا أن مجهر المتنبي أضاء فعلا على منطقة معتمة من خدع النفس البشرية.

يبقى هنا سؤال كبير: ماذا بقي في جعبة الجامعة العربية، والدول العربية التي حاولت، بكل إلحاح ورفق، أن تلقي أطواق النجاة، وليس طوق نجاة واحدا، إلى جزار الشام، مرارا وتكرارا، ولولا الحياء ربما من حنق وغضب الناس، وكميات الصور المتدفقة عن مجازر ماهر الأسد وجنوده، لغضت الجامعة العربية الطرف، أو ربما اكتفت بخطوات سلحفائية تميت القضية ريثما يفرغ الأخوان الأسد من مهمة تثبيت النظام، وهو طبعا ما لم تفعله الجامعة العربية والدول العربية تجاه مجنون ليبيا القذافي؛ فقد بادرت بكل حماس وفورية إلى بناء «الشرعية» العربية اللازمة للقضاء عسكريا، من خلال حلف الناتو، على نظام أو لا نظام القذافي؟ فهل الدم السوري أرخص من الدم الليبي؟ وهل سوريا (قلب العروبة النابض)، كما تعرف، ومخترعة آيديولوجيا القومية العربية هي خارج مدار الكوكب العربي ونظارات «نبيلها العام»؟!

الجامعة العربية في عهدها الثوري تحت امتحان أخلاقي وسياسي صعب، وعليها أن تثبت أنها ليست مسيَّرة بالريموت كنترول، وعلى نبيل العربي، بالذات، إثبات أنه خارج إطار وعباءة الخرافات الهيكلية (نسبة لحسنين هيكل، عراب فكرة التحالف العربي مع إيران).

بكل حال، يجب علينا إزجاء الشكر الخالص للرئيس بشار الأسد؛ لأنه كان عند حسن ظننا في العناد والعمى، منذ حواره الخنفشاري مع التلفزيون السوري إلى «محو أوروبا من الخارطة»، وعبارة «كأن لم يكن العربية» التي رد بها على بيان الجامعة العربية بخصوص سوريا؛ فقد فوت على نظامه أكثر من فرصة لكسب الوقت وإراحة المجتمع الدولي والعربي (الرسمي طبعا) الذي يريد حقا أن يكسب النظام الجولة، ولكن بقليل من الليونة من قبل النظام، لكن شكرا للرئيس الأسد الذي كان كعهدنا به صلبا مقاوما ممانعا للحياة والطبيعة[email protected]