الجامعة العرجاء

TT

الجامعة العربية قد هرمت.. هي الآن قد جاوزت الخامس والستين من الأعوام الطوال، تلهث وراء المتغيرات ولا تطولها.. تبتعد كثيرا عن آمال الشارع العربي. لو كانت موظفة لدى آخرين لحق لها التقاعد مع صرف المعاش. المتغيرات هائلة، وقراءة الجامعة لها بيروقراطية ومتلكئة وجزئية.

يوم السبت الماضي كانت الجامعة تفصل آخر ثوب لها، إلا أنه لم يكن أحد يعرف أهو ثوب زفاف أم حداد. تقدم المندوب الليبي ورفع العلم الجديد؛ علم الثورة، وقال كلمة بليغة بعد أن انتظر القرار من المجتمعين بعودة ليبيا من جديد إلى حضن الجامعة. إلا أن الملاحظة المهمة هي وجود السيد عبد الرحمن شلقم، الذي كثيرا ما كان مرافقا للقذافي في السنوات الطوال السابقة مع السيد محمود جبريل رئيس المجلس التنفيذي للمجلس الوطني الانتقالي الليبي.. هذه الرفقة هي رمزية أن الماضي والحاضر في الجامعة العربية يتعايشان معا، وهي الخطورة بذاتها.

الأهم من ذلك أن الرأي العام العربي يجد - في الظروف الحالية - ثمة تناقضا في موقف الجامعة، وأنها تكيل بمكيالين؛ مع ليبيا وسوريا، فالفعل الذي قامت من أجله الجامعة العربية بطرد النظام الليبي السابق، وهو قتل المدنيين أو من «أجل حماية المدنيين»، وتمت بعد قرار الجامعة ذاك، سلسلة من التطورات العالمية، انتهت بهروب القذافي الذي أوغل في سفك دماء أبناء ليبيا إلى مكان مجهول، وانتصار إرادة الشعب الليبي، هو نفس الفعل الذي يحدث في سوريا، أي قتل المدنيين أو من أجل «حماية المدنيين السوريين» لم تتحرك الجامعة، إلا بخطوات خجولة ومترددة، من أجل وقف نزيف الدماء السورية..! إرسال الأمين العام لإقناع النظام السوري بالكف عن القتل!

على رؤوس الأشهاد يختطف فنان تشكيلي عالمي وسوري هو الصديق علي فرزات الذي رسمت ريشته أكثر تعبيرات الفظاظة الشمولية وقام بالسخرية منها، خاصة من النياشين المعلقة على الصدور، والكراسي المطعمة بالماس والزمرد.. تلك الريشة التي تضاهي في ثقافتنا العربية المعاصرة، ريشة مغدور آخر هو الفنان المرحوم ناجي العلي. قام بعضهم في أكثر منطقة مزدحمة في دمشق في ليلة رمضانية باختطاف علي فرزات والتنكيل به إلى درجة تكسير أصابعه التي يرسم بها، وبعدها عرف العالم من خلال الكاريكاتور الذي نشر لماذا تم تطبيق شريعة الغاب عليه، لأن ريشته جمعت بين أمرين لهما الفعل نفسه؛ إبادة المدنيين المتظاهرين بالرصاص في كل من ليبيا وسوريا.

وقوف الجامعة العربية - ومقرها قلب القاهرة التي غيرت قبل أشهر نظاما شموليا - مترددة أمام إدانة واضحة وجلية لتلك الأفعال، وهي قد أدانت منذ أشهر ما حدث في ليبيا، وممثلو النظام المصري والتونسي والليبي الجديد في جملة أعضائها، كما أنها تضم أولئك الأعضاء الذين احتجوا بالعمل لا بالقول، على ما فعله القذافي في شعبه.. هذا الوقوف السلبي لا يمكن وصفه إلا بوصف واحد وهو «الكيل بمكيالين».

حقيقة الأمر أن الخطاب العربي وجب أن يتغير الآن، هذا الخطاب الخشبي الذي يقول الكثير دون أن يفعل شيئا آن له أن يسير سيرة أخرى، فمفرداته تناقض شعور الشعب العربي المتعاطف مع التغيير، والذي مل حتى الحنجرة ممارسات القمع الوحشي واستمرار حرمان الناس من أن يكونوا بشرا أصحاب رأي.. هذا الموقف لم يعد مقبولا من الجامعة العربية، وعليها وعلى بيروقراطيتها البحث الجاد في خيارات أخرى؛ خيارات مثل ما يحدث في شروط الالتحاق بمنظومة الدول الأوروبية، إما حقوق إنسان واضحة ومحترمة أو تبقى في الزمهرير السياسي خارج المنظومة.

لا لوم شخصيا على أفراد المؤسسة البيروقراطية في ميدان التحرير المصري، إلا أن المتابع يشعر بتناقض؛ أن تندلع أمواج التغيير من ذلك الميدان وعلى مقربة منه مبنى بيروقراطية عرجاء اسمها «الجامعة العربية» تراوح مكانها.

ما ضر المجتمعين ليلة السبت الماضي أن يتخذوا قرارا واضحا بشجب قتل الأبرياء في مدن وقرى سوريا.. ما ضرها لو ترحمت على أولئك الشباب الذين فقدوا أرواحهم، وما ضرها لو قالت للرأي العام العربي والعالمي إننا نرى ونشاهد القتل ولكننا ندينه كعمل غير أخلاقي يرتكب في بداية القرن الواحد والعشرين.

العجب أن أماكن كثيرة وبعيدة تأثرت بربيع العرب بشكل أو بآخر، عدا الجامعة العربية، التي زار أمينها العام الجديد أول من زار دمشق والرصاص يخترق صدور السوريين البسطاء الذين خرجوا يهتفون مطالبين بشيء واحد؛ «الحرية»، كيف تبرر تلك الزيارة، غير أننا قدمنا النصائح بعد أن واجهت الزيارة تلك الشجب من كل العقلاء، تلك الزيارة ذكرت - لمن يريد أن يتذكر - بزيارة الأمين العام الأسبق السيد عصمت عبد المجيد لنظام صدام حسين.. قيل وقتها إنها زيارة بروتوكولية.

بعد عشرين عاما ونيف، يكرر نبيل العربي الزيارة نفسها إلى عنوان آخر مشابه، وكأن هذا العالم الافتراضي للجامعة العربية لا يريد أن يتحرك مع الزمن إلى الأمام!

إن كانت البيروقراطية في الجامعة العربية جادة في قراءة ما يحدث حولها، فعليها أن تعكف على صياغة خطاب سياسي جديد؛ خطاب يقول لا لقتل المدنيين في الشوارع إن هم قاموا بمظاهرات سلمية للمطالبة بحقوقهم الطبيعية.. خطاب يؤكد المعنى الحقيقي لحقوق الإنسان وليس اللفظي.. خطاب يؤكد أن الجامعة العربية تتعامل مع متغيرات القرن الواحد والعشرين وليس ثوابت القرن الماضي.

حتى الآن فشلت الجامعة العربية في الاتفاق مع مطالب شعوبها. النجاح الوحيد تحقق في ليبيا، وكانت له ظروفه، أما في بقية «الدروس» فقد حصلت على أقل الدرجات.

«آخر الكلام»

اليوم عيد، والمعايدة الحقيقية هي الترحم على أرواح الشهداء الذين سقطوا في ميدان طلب الحرية.