محمد صلاح الدين وداعا

TT

ودع عالم الصحافة والإعلام والنشر السعودي علما من أعلامه، وهو الأستاذ محمد صلاح الدين، صاحب السيرة العطرة والعمل الإعلامي الصحافي الطويل والناجح. بدأ في صحيفة «الندوة» في العاصمة المقدسة مكة المكرمة، فقد صقلت مواهب «أبو عمرو»، كما كان يناديه محبوه، في مدرستين صحافيتين عريقتين بمكة المكرمة، الأولى صحيفة «الندوة» وكان يشرف عليه الأخوان صالح محمد جمال وشقيقه أحمد محمد جمال، وكذلك الحال أيضا في مجلة «الحج» وكان يشرف عليها الأديب المكي المعروف محمد سعيد الغامدي، ثم انتقل لاحقا مع الأخوين هشام ومحمد علي حافظ حينما أعادا إطلاق صحيفة «المدينة» (التي كانت تؤول ملكيتها إلى والدهما وعمهما وأصابتها بعض المشاكل المالية فتعثرت) من جدة، واستعانا بمحمد صلاح الدين الذي كان بمثابة المحرك الأهم لتحرير الصحيفة. كان يسكن مكة ويأتي إلى مقر الصحيفة ولا يغادر حتى تشارف على الطباعة، كان هذا دأبه، أكثر من نصف قرن الالتزام والمهنية بهدوء شديد من دون ضجيج ولا صوت. كان يدع قلمه وعلمه يتحدثان عن نفسه.

برع الأستاذ محمد صلاح الدين في التحرير الصحافي وجعل للجريدة خطا مهنيا مميزا وبصمة واضحة تعكس شخصيته ورصانته. ولقلمه المحترم نصيب من الأتباع، فلقد كان له عمود صحافي يعتبر من أهم الأعمدة الصحافية السعودية وأعرقها بعنوان «الفلك يدور». كان وتد صحيفة «المدينة» وأهم سبب لقراءتها.. إنه متنوع وثري في طروحاته، ودائما يبحث عن الصالح العام، ومهموم بمشاكل المسلمين في العالم، ويحذر من الشيوعية واليسار بصفة عامة. كان رجلا محترما بمعنى الكلمة، قليل الكلام، دائم الابتسامة، ليس رجل مواجهات أو سليط اللسان، في كل مجلس يأخذ المجلس الأبعد ويدخل إليه وهو يحيي بإيماءة واضعا يديه فوق رأسه، ومن ثم على صدره، حتى باتت كعلامة لا يعرف بها إلا «أبو عمرو». تألق في مجال النشر المتخصص، وكانت له محاولات لافتة لمجلات اقتصادية ومالية وطبية ودينية، ولكن تجربته الأطول والأهم كانت نشره لفترة طويلة لمجلة «أهلا وسهلا» التابعة لـ«الخطوط الجوية السعودية». كان محبوبا من الجميع ودمث الأخلاق يساعد الناس بقدر ما يستطيع، متواضعا رغم علمه وقدرته، ولكن دائما ما كان يفضل الإنصات على الكلام وحتى حين يُسأل يفضل أن يكون جوابه مختصرا ومحددا حتى لا يأخذ من وقت غيره ويحتكر الحديث وحده. احترمته الأجيال من صغير وكبير، ووافقه واحترمه حتى من خالفه الرأي الفكري وكان على نقيض منه. كان متابعا دؤوبا للشأن السياسي والعربي والإسلامي، ووطنيا بامتياز. أيام توليه الإشراف التحريري في صحيفة «المدينة» كان حريصا على إبراز المواهب والمهارات الجديدة والمميزة، وإعطاء المساحة المطلوبة لها، ومنحها الثقة اللازمة كذلك.

حياته كانت ثرية بالتجارب والعبر والدروس، غزيرة بالأشخاص والمواقف، ومع ذلك لم يمنحه كل ذلك إلا تقديرا وحبا وتواضعا ومكانة مميزة في قلوب كل من عرفوه. كانت تربطني به علاقة ود واحترام، كنت ألتقيه في مناسبات ثابتة دوما، سواء الغداء «السمكي» عند بيت بن زقر الكريم يوم الثلاثاء، أو لدى الأستاذ محمد عمر العمودي في خميسيته المعروفة، وكان دوما يحظى بالاحترام والمحبة والتقدير الاستثنائي. الجلطة الدماغية التي أصابته وهو يعمل في مكتبه كانت قاضية وذلك في يوم 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، فلم يعد بها كما كان، وسلسلة العمليات الجراحية ومحاولات العلاج المختلفة داخل وخارج السعودية كلها كانت محاولات، ولكن أجل الله المكتوب فوق كل شيء.

محمد صلاح الدين رجل من نوع نادر، معدن قل أن يجود بمثله الزمان، سيفتقده محبوه وسيشتاق لرؤيته كل من سمعوا به. ترك ابنته سارة الدندراوي تواصل مسيرته الإعلامية في قناة «العربية» حتى لا تغيب ذكراه، نسأل الله له الرحمة وهو الذي اختاره إلى جواره في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، وأن يلهم أهله وذويه الصبر والسلوان، و«إنا لله وإنا إليه راجعون».

[email protected]