انتصار الثورة الليبية

TT

لا بد أن كل واحد منا - نحن العرب - سوف يشعر بالخجل والعار لأن شخصا مثل معمر القذافي قام بحكم بلد عربي في زمن وصل فيه الإنسان إلى الفضاء، وهبط على القمر، وظهر فيه عصر الإنترنت، وجرت فيه ثورات اقتصادية وسياسية وديمقراطية لا عدد لها ولا حصر. ولم تكن القضية أبدا أنه كان ديكتاتورا، فلم يعرف العرب كثيرا من الديمقراطية على أي حال، ولا كان، بسبب أن القذافي كان عنيفا، فقد كان العنف جزءا أصيلا في السياسات العربية المعاصرة، والقديمة أيضا، ولكن لأنه كان «مهرجا» من الطراز الأول، وكان «فضيحة» سياسية وإنسانية في داخل ليبيا وخارجها. ولكن الشعب الليبي محا هذا العار في ثورة عظمى نشبت في 17 فبراير (شباط) الماضي في بنغازي، وانتصرت عندما دخلت إلى مقر القذافي في باب العزيزية في طرابلس يوم السبت 21 أغسطس (آب). وبينما كان القذافي الذي كان يعلن كل لحظة أنه بسبيله إلى القضاء على «الجرذان» - شعبه الليبي - تحول هو ذاته إلى فأر يتنقل تحت الأرض حتى يجري القبض عليه.

وهكذا سقط طاغية عربي آخر، وكما كانت كل السوابق، فإن لكل بلد عربي طريقته وظروفه التي جرى بها تغيير نظام الحكم. في ليبيا كان تقدم الثورة مرتبطا دوما بتفكك النظام الذي بدأ بفرار السفراء ثم الوزراء، ولكن أهم ما جرى كان انقسام الجيش حتى صارت أغلبيته في صفوف الثوار الذين زحفوا قرية بعد قرية ومدينة بعد مدينة حتى وصلوا إلى العاصمة. ولم يكن تفكك نظام الحكم ممكنا لولا حكمة «المجلس الوطني الانتقالي» الذي أبقى ذراعه مفتوحة لكل ليبي مهما كانت سابقة أعماله مع النظام السابق لكي يشارك في بناء النظام الجديد، والجمهورية الليبية الجديدة. كانت هناك بعض عودة لرموز النظام الملكي، نعم مثل العلم والنشيد الوطني، ولكنها لم تكن للنظام الملكي بقدر ما كانت لعهد استقلال ليبيا وظهورها على المجتمع الدولي كدولة مستقلة. وكان ذلك حكمة من المجلس الوطني الانتقالي لأن المهمة ثقيلة، فهي ليست إعادة بناء للنظام السياسي كما هو الحال في مصر وتونس حيث ظلت الدولة بجيشها وقضائها وبيروقراطيتها باقية، وإنما إعادة بناء الدولة ذاتها التي جرى تمزيقها بوحشية هائلة.

ولكن الثورة الليبية ولدت أوضاعا جديدة غير مسبوقة في الشرق الأوسط كله. وبالتأكيد فإن ظلالها سوف تلقي بثقلها على الأوضاع في اليمن وفي سوريا، حيث آن أوان حسم الأوضاع لو تعلم الحاكمون الدرس أن التاريخ لن يعود إلى الوراء مرة أخرى. وعندما يجري ذلك فإن الأوضاع الاستراتيجية في المشرق العربي، كما هو الحال الآن في المغرب العربي، والجزيرة العربية سوف تصبح في حال ليس هو حالها الآن أو في السابق.

هذا التغير الإقليمي صاحبه تغير دولي بالغ الأهمية تعلق بالدور الذي لعبه حلف الأطلنطي في الثورة الليبية. الحقيقة الجديدة في المنطقة هي أن حلف الأطلنطي أصبح لاعبا رئيسيا ليس بالقول وحده، أو بأشكال من التعاون السلمي الذي له طبيعة ثنائية بين دول عربية والحلف، أو حتى باستخدام العنف المسلح كما جرى بشكل أو بآخر بمشاركة دول أعضاء في الحلف في غزو العراق عام 2003، وإنما بالتراضي والقبول من أبناء المنطقة، بل بالدعوة منها.

فما جرى مؤخرا في ليبيا، عندما نشبت الثورة على حكم مجنون استمر لمدة 42 عاما وسط تصفيق لخليفة عبد الناصر وأمين القومية العربية ثم الأفريقية مع أوصاف أخرى كثيرة، شيء مختلف. قامت الثورة، ورد عليها الزعيم بالمذبحة تلو المذبحة كما اعتاد على التعامل مع «الجرذان»، واقتربت مدرعاته من بنغازي معقل الثورة ونقطة بدايتها. ولأول مرة في شهر مارس (آذار) تصدر الجامعة العربية قرارا تطلب التدخل الأجنبي من أجل حماية المدنيين، واستجاب مجلس الأمن بإصدار القرار 1973، وعندما كانت دبابات القذافي على مشارف المدينة الثائرة تولت الطائرات الأميركية والبريطانية والفرنسية تدميرها. ولم يكن الأمر إنقاذا للمدينة فقط، ولكن للثورة أيضا.

ولكن ما حدث فعلا أن ما كان قرارا للتدخل الإنساني صار قرارا بتغيير النظام، وعندما دخلت قوات الثورة المظفرة طرابلس كانت هناك قوات خاصة معاونة من بريطانيا وفرنسا وقطر والأردن. وعندما أعلنت الولايات المتحدة عن سلامة الأسلحة الكيماوية الليبية فإن ذلك كان يعني أن هناك من استولى عليها ويحرسها من قوات حلف الأطلنطي. وهكذا قلبت ليبيا صفحة جديدة من تاريخها، ولكنها أيضا قلبت صفحة جديدة من تاريخ الحلف في المنطقة جرى فيها التعاون ما بين ثماني دول أوروبية، مضافا لها كندا، وقطر والإمارات والأردن؛ أما الولايات المتحدة فقد شاركت في الافتتاحية الأولى للحرب، ويبدو أنها لم تبخل أبدا بعناصر المخابرات والدعم المعلوماتي واللوجيستيكي لعمليات الحلف.

الأمر هنا جد مختلف عما كان عليه في البلقان عندما تركت الدول الأوروبية الولايات المتحدة وحدها في البوسنة وكوسوفو. ولكن الحقيقة الباقية من الناحية الاستراتيجية والأخلاقية أن الشعب الليبي صار مدينا - كما كان الحال في الكويت في ظروف أخرى - لحلف الأطلنطي في الخلاص من الطاغية. ولكن النتيجة الأخرى هي أن استراتيجية الرئيس الأميركي باراك أوباما في العمل على تحمل الدول الأوروبية جزءا من الأعباء التي تتحملها الولايات المتحدة في العالم قد نجحت حتى ولو غابت ألمانيا، مع عشرين دولة أوروبية أخرى، عن المشاركة. وعلى أي حال، فقد كسبت تعاون دول عربية في عمليات عسكرية معقدة يقودها حلف الأطلنطي.

نتائج ذلك وانعكاساته على المنطقة لا يمكن تحديدها الآن، فحتى وقت كتابة هذا المقال لم تكن معركة طرابلس قد وصلت إلى نهايتها بعد، ولكن حسمها وانتقال المجلس الوطني الانتقالي إلى العاصمة قد بات مؤكدا، وأن دولة ليبية جديدة قد ولدت. ولكن، وكما يقال، فإن الميلاد والثورة أمر، وبناء الدولة أمر آخر. وحتى الآن فإن المجلس الوطني الانتقالي أرسل كل الرسائل الصحيحة، فلا يوجد لديه نية للانتقام أو التشفي، وهو سوف يتبع تسلسل وضع دستور ديمقراطي تعقبه انتخابات عامة، بينما يدير ذلك كله حكومة انتقالية. وكل ذلك يجري في هدوء وبلا عصبية، وبتنسيق معقول مع الدول العربية والأوروبية والولايات المتحدة بالطبع. وربما سهل على المجلس الانتقالي مهمته أن القذافي لم يجد في العالم كله أحدا من المؤيدين إلا من طائفة مماثلة له في البهلوانيات السياسية والخصائص النفسية التي مكانها ليس كراسي الحكم ولكن مستشفيات الأمراض العقلية.