غودوين.. والفتوى المحرجة

TT

في أوج التعبئة الصاخبة لعملية التوجه إلى الأمم المتحدة، جازفت برأي فيه قدر كبير من التحفظ، وقدر أكبر من الأسئلة..

وعن اقتناع عميق وأكيد، حاولت الفصل بين فكرة الاستفادة من المنظمة الدولية كأحد مجالات العمل السياسي الفلسطيني الذي مارسناه على مدى عقود، وفكرة نقل الملف السياسي إلى المنظمة الدولية بما لذلك من مزايا رمزية ومحاذير عملية.

وكانت آرائي المتحفظة، والحذرة، مبررة من وجهة نظري بمنطق سياسي وليس بمنطق قانوني.. بمنطق دراسة رد الفعل قبل الإقدام على الفعل ذاته، وبمنطق التحقق من القدرة على المواصلة أمام المستجدات وأمام حقيقة وضعنا الداخلي المثخن بالجراح والآلام، والتشققات العميقة في الأرض التي نقف عليها بفعل سلسلة من الأزمات الداخلية التي لم تجد حلا.. وبفعل الأزمة الأخطر وهي استمرار الانقسام وتناحر سياستين بالجملة والتفصيل على أرض الوطن الواحد.

حين تقدمت بتحفظاتي داخل المؤسسات القيادية الافتراضية مثل المجلس المركزي لمنظمة التحرير والمجلس الاستشاري لحركة فتح، ومن خلال «الشرق الأوسط» والمنابر الإعلامية المتاحة.. لم أكن أعرف بأن هنالك تكليفا مدفوع الأجر لرجل القانون الدولي غودوين غيل، كي يتقدم بدراسة مهنية تخلص إلى توصيات يفترض أن يؤخذ بها.. وبداهة أن لا أكون على اضطلاع باستخلاصات السيد غودوين ولا استطرادات الدكتورة كرمة نابلسي المتفهمة لها والشارحة لصيغة سياسية لمحتواها وحيثياتها.

لذا، لم يؤثر بي كثيرا درس غودوين.. إلا أن الذي لفت نظري.. هو رد الفعل الذي صدر عن الفريق الرسمي الفلسطيني.. والشبيه برد الفعل على وثائق «ويكيليكس»، حيث جرى الاحتفاء ببرقية تظهر جانبا إيجابيا من جوانب سلوك القيادة السياسية الفلسطينية، واستعملت البرقية كشهادة إثبات على البراءة وجودة الأداء.. وحين جاءت برقيات أخرى تتحدث عما يحرج ويدين.. جرى التنديد بـ«ويكيليكس» من أساسه، وخلعت عليه الألقاب المضادة وأقلها بالطبع أن المؤسسة كلها هي ربيبة الصهيونية، بل إنها مكلفة بأمر واحد هو الإساءة للأداء السياسي الفلسطيني المتقن والمنزه عن الأخطاء الذي تمارسه القيادة الفلسطينية!!

ما حدث مع «ويكيليكس»، وشيء يشبهه حدث مع وثائق «الجزيرة»، يحدث الآن مع الرجل الذي كلفناه ودفعنا له، وانتظرنا بشغف استنتاجاته، فلو قال غودوين إن فكرة الذهاب إلى الأمم المتحدة هي فكرة عبقرية، وإن التفسيرات المرتجلة التي أغرق بها الرسميون الفلسطينيون الرأي العام إلى حد تصوير الأمر كما لو أنه تحول تاريخي سيأتي بالدولة عما قريب، لو قال ذلك لحدث في الإعلام الفلسطيني الرسمي احتفاء بالحكمة وقوة المنطق، ولأصبح غودوين أفضل صديق للشعب الفلسطيني، بل وأحد مؤسسي الدولة المنتظرة، أما وإن الرجل قال ما عنده، محذرا وكاشفا بعض المضاعفات السلبية للعملية، فقد تم الرد عليه بصورة تظهر الرجل كما لو أنه أجهل الجاهلين بالقضية الفلسطينية واعتباراتها... حتى أن أحد الكتاب انتقده كما لو أنه انشق عن الطابور الفلسطيني، والتحق بالطابور الأميركي الإسرائيلي.. ولم يبق إلا مطالبة الرجل بإعادة المال الذي قبضه مع دفع تعويضات عن «سخف آرائه» التي تتعارض مع عبقرية مفكري القيادة السياسية عندنا.

هذه الطريقة تؤكد على السمة الأساسية لصنع القرارات السياسية عندنا.. وهي الارتجال.. ونفي جدارة وأهمية أي دراسة علمية وموضوعية لأي مشروع قرار أو توجه يتعين علينا اتخاذه، ولعل ما يؤكد استنتاجي هذا، هو أن الرجل كلف بالدراسة بعد اتخاذ القرار وليس قبله، ما يعني أن الدراسة تم اللجوء إليها لرفع العتب والقول: «إننا لم نترك خبيرا سياسيا أو قانونيا إلا واستشرناه» أو لتوقع ساذج من أن الرجل الذي قبض أتعابه سيخالف مهنته وضميره، ويقدم فتوى على مقاس القرار المتخذ، أي فتوى تصلح للاستدلال بها على سداد القرار وفاعليته.

ولا أستغرب ما حصل مع الخبير غودوين،.. فحين نهمل دراسة دفعنا أجرها، أو لعل دولة عربية قامت بذلك دعما منها لجهدنا، فإننا بذلك نكون قد سرنا على نهجنا الثابت والراسخ في تجاهل مبدأ الدراسة المسبق لأي خطوة أو قرار، مع استمرارنا في اعتماد مبدأ أن الفتوى التي تناسب ارتجالنا هي الأفضل والأجدر بالاعتماد والترويج، أما التي تخالف ارتجالنا فهي صادرة عن رجل عديم الخبرة السياسية أو حتى القانونية، بل ربما نجد خيطا يربط جدته لأمه أو أبيه بالحركة الصهيونية وأجنداتها!