العودة التركية إلى الصومال

TT

مطلب الصعود التركي وخطط إعادة الانتشار والتمركز الإقليمي ماضية في طريقها رغم كل العوائق والحواجز والمطبات والضربات الموجعة التي تتلقاها الدبلوماسية التركية من خلال سقوط الكثير من حلفائها وشركائها ومن راهنت عليهم فتحولوا إلى أوراق خاسرة يهددون بعدم ترك يدها بمثل هذه السهولة وهم على حافة السقوط. الصومال فرصة لا تعوض لاسترداد الأنفاس وكسب بعض المعنويات التي نحتاجها جميعا في تركيا وفي هذه الأيام الصعبة.

أزمة الجفاف في الصومال، التي سرعان ما تحولت إلى خطر مجاعة حركت الكثير من الدول والمنظمات الإقليمية والعالمية لمد يد العون والمساعدة، كان الموقف التركي الأبرز والأكثر حماسا واندفاعا فيها للوقوف إلى جانب الصوماليين في محنتهم هذه.

رجب طيب أردوغان الذي حمل لقب أول زعيم غير أفريقي يزور الصومال منذ أكثر من 20 عاما قال إنها مسؤولية أخلاقية إنسانية دينية بالدرجة الأولى، وإن الآخرين أيضا سيلتحقون بنا في حملة الوقوف إلى جانب الشعب الصومالي في أيامه الصعبة هذه.

لكن مسألة توقيت الزيارة وطبيعة الوفد المرافق الذي ضم الكثير من الوزراء ورجال الأعمال والإعلام والحديث عن مشاريع إنمائية طويلة الأمد وخطط متعددة الجوانب ناقشها أردوغان مع الرئيس الصومالي، كل هذا يؤكد وجود الرغبة التركية في العودة القوية إلى شرق أفريقيا هذه الدائرة الجغرافية التي ظلت لعقود خارج الاهتمام الاستراتيجي لتركيا.

الحملة التركية الواسعة باتجاه الصومال كانت بمثابة الاستنفار الثاني للأتراك بعد زلزال ازميت عام 1999 حيث تم حشد الطاقات والإمكانات وتجييش الآلاف الذين حولوا ما يجري إلى مسألة مساندة وتضامن شامل. يكفي إلقاء نظرة على الشعارات التي رفعتها العشرات من القنوات التلفزيونية التي جعلت من برامجها مراكز جمع التبرعات والتسابق على إرسال المساعدات دون أي تردد لنعرف حجم الاستنفار في كافة القطاعات والمرافق التركية. بادرة قادتها الحكومة بمشاركة رئاسة الشؤون الدينية والهلال الأحمر التركي ومنظمة «تيكا» الإنمائية والكثير من مؤسسات وهيئات المجتمع المدني في تركيا وهي استراتيجية البعد، خصوصا عندما تحركت عشرات الجامعات والمعاهد بالانضمام إليها من خلال عرض مئات المنح الدراسية أمام الطلاب الصوماليين الراغبين بالدراسة في تركيا.

حتى الأمس القريب كانت أفريقيا لا تعني سوى الجرح التاريخي العميق والمغادرة المؤلمة للأتراك وتسليم تلك المناطق للإيطاليين والفرنسيين والإنجليز. أما اليوم فالعودة التركية إلى الصومال بهذا الحماس والاندفاع والزخم لها علاقة أيضا بالعودة إلى بلد تركه الأتراك قبل قرن وبعد أكثر من ثلاثة قرون ونصف على الوجود العثماني هناك.

ربما هي ليست المرة الأولى التي تقرر فيها أنقرة الوقوف إلى جانب الصومال لإخراجه من أزماته فهي قادت في مطلع التسعينات قوات الأطلسي العاملة هناك لكنها كانت مهمة شاقة تركت آثارا سلبية غير مفرحة قد يكون الأتراك يسعون لإزالتها اليوم عبر تحرك من هذا النوع.

أردوغان، الذي قال إن محنة الصومال هي نقطة اختبار المعايير الأخلاقية والاجتماعية والإنسانية للمجتمعات العصرية، لم يتردد في تحويل المناسبة إلى فرصة لتذكير القادة الأفارقة بضرورة مراجعة سياساتهم وأساليبهم في الإدارة والحكم ورسم السياسات مستشهدا بالنماذج والحالات التي يشهدها شمال القارة.

أنقرة وهي تعود بكل ثقلها إلى الصومال على طريق الرجوع إلى شرق هذه الجغرافيا تكون قد بدأت تحقيق حلم يندرج ضمن سياسة تركية جديدة يقودها العدالة والتنمية تحت شعار العودة إلى القارة السوداء المنسية استراتيجيا وتجاريا. إعلان عام 2005 عام القارة الأفريقية في تركيا والمؤتمرات وحلقات النقاش الكثيرة التي نظمتها الخارجية التركية وقرار زيادة عدد السفارات والبعثات الدبلوماسية والمكاتب التجارية في أفريقيا وما تبعه من قمم ومؤتمرات ثنائية رافقها العشرات من العقود والاتفاقيات ومشاريع التنمية المشتركة يعكس حجم وأهمية ما يجري بالنسبة لتركيا.

أحمد داود أوغلو ردد أكثر من مرة أن أفريقيا حلقة في «العمق الاستراتيجي» للسياسة الخارجية التركية الجديدة وهو مصر على المنازلة ولعب ما يملك من أوراق وحتى على المكشوف أحيانا. لماذا يتنافس الأميركيون والروس والصينيون والأوروبيون على حماية مصالحهم في أفريقيا ويظل الأتراك بعيدين عما يجري؟

سخرية القدر هي أن نتحدث عن حملة الصومال التركية هذه والرغبة في بناء جسر جديد يأخذ مكانه بين الجسر المهدم قبل أكثر من قرن مع القارة، وأن تسارع بعض الأقلام لتذكيرنا بمآسي مئات اللاجئين الصوماليين الذين يرون في تركيا جسر عبور نحو العالم الحديث. إسطنبول هي استراحتهم وفرصتهم لحجز مكانهم في قعر قارب النجاة الذي غالبا ما يخيب آمالهم وهم على قاب قوسين أو أدنى من الجزر اليونانية.

أحدهم كتب يذكرنا بمأساة 6 لاجئين قضوا في قارب مطاطي بعدما داهمتهم العاصفة. التاجر الذي باعهم القارب قال من أين لي أن أعرف أنهم لاجئون كنت أعتقد أنهم سياح جاءوا للتنزه!