السياسة الصينية بين اليمين واليسار والشيوعية والشيوعية المتشددة

TT

شنغهاي - يتحدث المراقبون المتخصصون في الشؤون الصينية حول واحد من أبرز التطورات التي ظهرت في الآونة الأخيرة على المشهد السياسي والاجتماعي الصيني والذي تمثل في «تمجيد الشيوعية» ـ إحياء الأغاني الثورية التي تجسد الحقبة اليسارية لماو تسي تونغ. بدأت الموجة الجديدة في مدينة تشونغ قنغ، مدينة رئيسية يقطنها 20 مليون شخص تحت قيادة واحد من أكثر السياسيين غموضا في البلاد، بو إكسيالي. فبعد 30 عاما مما وصفه الكثيرون بالرأسمالية فائقة السرعة، عادت الأغاني الشيوعية الثورية القديمة لتسيطر على الساحات العامة وشاشات التلفزيون. ويشير الكثيرون بقلق بالغ إلى ذلك باعتباره مؤشرا على تحول وشيك إلى اليسار يبدو أكثر رعبا بقدر عودة الثورة الثقافية. على الجانب الآخر، يرى بعض الحرس القديم وتابعيهم الجدد، من يسمون باليسار الجديد، أن الحزب أعاد اكتشاف الجذور الاشتراكية التي تم التخلي عنها تحت مسمى التنمية الاقتصادية. وكلا التفسيرين بسيط وخاطئ بشكل واضح.

لدراسة هذه الظاهرة ربما ينبغي علينا فهم تطور الحزب الشيوعي الصيني. ففي مرحلة تأسيس الحزب في عام 1921، كانت الدولة الصينية ممزقة بعد ما يزيد على نصف قرن من التدهور السريع. فقد أثبتت معاهدة فيرساي التي وقِّعت عام 1919 أن طبقات النخبة الصينية كانت قد وصلت إلى مرحلة من العجز والفساد تحول بينها وبين القدرة على بناء دولة حديثة قادرة على تقديم حياة كريمة وآمنة، ناهيك عن الكرامة لمواطنيها. ومرة أخرى كما حدث مرات عديدة قبل الماضي الاستعماري الصيني، هبت الجموع التي كانت تتألف غالبيتها من الفلاحين لمعالجة هذا الوضع. كان الاختلاف هذه المرة أن الصدمة الساحقة التي تسبب فيها الغزو الأجنبي للقوى الصناعية الكبرى تطلب حركة اجتماعية قادرة على الاستفادة من قوة الآيديولوجية الحديثة. ومن هنا لعب الحزب الشيوعي الصيني دورا بارزا في تبني الماركسية أولا ثم اللينينية فيما بعد في قيادة جموع الشعب الصيني في الثورة التي أدت في نهاية المطاف إلى تأسيس وتعزيز الجمهورية الشعبية.

ووجدت المثل الشيوعية للماركسية صدى في الثقافة الكونفوشيوسية المتمثلة في المساواة، والأدوات التنظيمية اللينينية والتي حشدت على نحو فاعل طبقة الفلاحين التي كانت ضعيفة وغير منظمة. ونتيجة لذلك مثل الحزب الجماهير كمؤسسة شيوعية ، وتواصل ذلك على مدى الثلاثين عاما من الجمهورية الشعبية (1949 - 1979)، في الوقت الذي كانت فيه الجمهورية الفتية تعزز من وجودها. ويعرف المعجم السياسي الحديث الحزب الشيوعي الصيني على أنه قوة سياسية يسارية مثالية. أما من حاربوا ضده قبل عام 1949 ومن انشقوا عن حكمه فيما بعد كانوا من اليمين السياسي.

ثم جاء عام 1979، العام الذي دشن فيه دنغ شياو بن الإصلاح الصيني الذي كان مقدرا له أن يغير التاريخ. كان النجاح الصيني في تلك المرحلة معترفا به على نطاق واسع لكن التطور اللاحق للحزب في التحول إلى حزب حاكم يميل نحو اليمين ومؤيد للرأسمالية قصة نسيها العالم إلى حد بعيد. هذا التطور اتضحت معالمه وتشكل في النهاية على يد خليفته جيانغ زيمين في عام 2000.

تم ضم نظرية زيمين التي أطلق عليها «نظرية التمثيلات الثلاثة» إلى الدستور في عام 2002 وأعاد تعريف الحزب كممثل للقوى المنتجة المتقدمة الصينية، والقوى الثقافية المتقدمة وغالبية الشعب الصيني.

وبعد مضي أكثر من 80 عاما على معاهدة فيرساي، أعطت الأمة الصينية الواثقة والنشطة الحزب القدرة على التحرك للزعم بتمثيل النخبة الجديدة في البلاد بما في ذلك رجال الأعمال. علاوة على ذلك أدرك الحزب أن مصلحة الجماهير تتواءم ومصلحة النخب، ومن خلال ها التواؤم تمكنت الصين من تحقيق النجاح حتى اليوم ومن خلال هذه المواءمة فقط تستطيع أن تواصل التطور الذي تسعى إليه. ومن ثم تجاوز الحزب بشكل قاطع فكرة الصراع الطبقي.

دخلت فكرة الحزب السياسي إلى الصين من الغرب الحديث في أواخر القرن التاسع عشر. وخلال تأسيسه وعبر صراعه لاكتساب وتعزيز القوة السياسية لم يكن الحزب الشيوعي الصيني على الإطلاق ذات المؤسسة السياسية التي يعنيها المصطلح. ربما كان له نفس ملامح الحزب السياسي، لكنه في الحقيقة كان حركة سياسية قومية يسارية. لكن الحزب بات من الواضح أنه لم يعد حزبا سياسيا كما يشير المصطلح في العلوم السياسية المعاصرة. فهو ليس مجموعة تسعى لتمثيل الأفكار والمصالح لجانب من الشعب الصيني. بل إنه يزعم أنه يمثل عموم الأمة الصينية.

وبدلا من أن يكونوا حزبا، فهو تحالف سياسي يحكم الصين عبر إدارة نطاق واسع من الطبقات والمصالح والأفكار والتحكيم فيما بينها، ومن ثم تحديد مسار يقدم أفضل مصلحة بعيدة المدى بالنسبة للأمة ككل. ومع بدايته كحركة جماهيرية، فإن هذا التحول يستلزم بالضرورة أن يتضمن طريقة أكثر شمولية تجاه النخب. أو باختصار حركة من اليسار إلى اليمين.

بعدها، حدث تطور مذهل خلال فترة السنوات العشر منذ أن أصبحت نظرية «التمثيلات الثلاثة» هي المنهجية الرسمية للحزب. وجاءت معظم الاعتراضات على حكم الحزب من جانب اليسار، ممثل في كل من الشيوعيين والديمقراطيين الليبراليين. وقد أثار كثيرون من داخل النخبة المثقفة والعديد من وسائل الإعلام الليبرالية، فضلا عن الآراء على شبكة الإنترنت، موجات من الاستياء على المستوى القومي. وتتركز انتقاداتهم على فجوة الثروة التي ولدها اقتصاد السوق والافتقار إلى دولة رفاهية ووجود النخبة التجارية والفنية التي تتلقى النصيب أكبر من المكاسب الاقتصادية السريعة وفئة طبقة الموظفين التي تشرف على هذا التحول القومي. ويعتبر الفساد أيضا أحد أهم مصادر الشكاوى، لكنه مصدر عارض بالنسبة لخط الانتقادات العام من جانب اليسار؛ إذ إن هذه الظروف ستكون موجودة في ظل وجود الفساد أو في غيابه.

لذلك، فللمرة الأولى منذ أن أسس الاتحاد السوفياتي دولة شيوعية، أصبحت لدينا دولة يمثل فيها اليساريون جبهة المعارضة الرئيسية ضد نظام حكم حزب شيوعي. ويعتبر هذا أمرا محيرا على وجه الخصوص بالنسبة للمراقبين الخارجيين نظرا لأنه كان من المعتاد في الصين وفي كل دول العالم أن تأتي المعارضة لنظام الحكم الشيوعي من جانب تيار اليمين.

وفي بعض الأحيان، يبدو هذا الأمر محيرا بالنسبة للمراقبين من داخل الصين الذين دأبوا على الإشارة لمنتقدي سلطة الحزب باليمينيين. غير أن هناك بالطبع يساريين متطرفين على طول الخط. وهم يطالبون بالتوزيع المتكافئ للثروة حتى ولو كان ذلك على حساب تباطؤ النمو الاقتصادي. إنهم ينتقدون أي امتيازات من أي نوع. وهم ينظرون لكل المساوئ الاجتماعية باعتبارها نتيجة لتدليل الحزب للنخب وتجاهل عموم الشعب. في حقيقة الأمر، بدأوا يتغنون بالنظام الشيوعي قبل وقت طويل من إطلاق بو الحركة في تشونغتشينغ. إن الآراء التي ينظر إليها بصورة خاطئة من قبل الكثيرين باعتبارها نابعة من اليمين لأنها تعارض حكم الحزب هي فعليا قادمة من اليسار، بل وأكثر شيوعية من الحزب الشيوعي نفسه.

وبالتعمق في كل الجلبة المثارة حول اليسار واليمين، فإن ما نراه هو حركة - تتغنى بالنظام الشيوعي – والتي هي في حقيقة الأمر جهد من قبل الحزب لاستعادة قاعدة سلطته التقليدية المهددة بأن يسيطر عليها معارضوه من داخل وسائل الإعلام والنخبة المثقفة. وبالطبع، يرى بو على نحو صحيح الأمر نفسه. فمن دون دعم جماهير الشعب الصينية، سيكون من المستحيل بالنسبة للصين أن تمضي قدما في مسار التنمية الذي تنتهجه في الوقت الحالي، وربما تكون المصالح الشخصية للنخبة مهددة أيضا.

هناك دلالتان لهذا التطور؛ أولا، بالرغم من أن هذه الحركة تعتبر رد فعل للمعارضة من جانب اليسار، فمن خلالها، ربما ينجح الحزب في توطيد سلطته السياسية. إن تحالفه مع عامة الشعب كان قويا ولا يزال يجري في دمائه. وبمجرد أن يقرر التحرك في ذلك الاتجاه، لن يكون من المحتمل أن يتمكن محور شعبية وسائل الإعلام والنخبة المثقفة من زعزعة أركانه. في تشونغتشينغ، حيث بدأ كل هذا، يبدو أن التطور الاقتصادي السريع يتزامن مع، بل وربما يدعمه، إعادة التأكيد على قوة عامة الشعب. وتشير النتائج الأولية لحملة التغني بمزايا النظام الشيوعي في كل مكان في الدولة إلى الاتجاه نفسه.

ثانيا، عادة ما تكون الشعبية في كل مكان مصحوبة بنزعة قومية، وليست الصين استثناء من هذه القاعدة. ففي وسائل الإعلام، وخاصة على شبكة الإنترنت، عادة ما تكون النزعة القومية المتقدة مصاحبة للشعبية التي تشكل تحديا لحكم الحزب الشيوعي. فمن تأييد تبني موقف عسكري أكثر عنفا في بحر الصين الجنوبي إلى إدانة استمرار الحكومة الصينية في شراء سندات الخزانة الأميركية والاحتفاظ بها، يشكل كل من الشعبية والقومية ضغطا على الحزب من أجل تغيير سياسة الاعتدال تجاه الغرب التي يتبناها منذ أمد طويل.

ومع دخول الصين مرحلة حساسة قبل تغير القيادة في عام 2012، تبقى هناك تساؤلات مهمة. على المستوى المحلي، هل يمكن للحزب أن يبقي على التوازن الهش بين استعادة جذوره الشعبية وحماية مصالح طبقة النخبة التي تشكل أهمية لمواصلة النجاح الاقتصادي، والذي يضمن بالتبعية دعم عموم الشعب على المدى الطويل؟ وعلى المستوى الدولي، هل بوسع الحزب أن يخفف من حدة النزعة القومية المحتدمة، أو حتى يستغلها، بينما يبقي على سياسة خارجية معتدلة نسبيا توفر مناخا خارجيا سلميا مهما لتقدمها الاقتصادي؟ بالنسبة للحزب نفسه، هل باستطاعته أن ينجح في تجاوز مفهوم الحزب السياسي المتعارف عليه وأن يصبح نظاما حاكما مستقرا لأكبر الدول وأسرعها تغيرا على ظهر البسيطة؟ إذا فعل ذلك، فسيغير هذا نظام الحكم في الصين، بل علم السياسة نفسه.

* رئيس مجلس إدارة «تشينغوي كابيتال»، وهو أستاذ بكلية العلاقات الدولية والشؤون العامة بجامعة فودان ومقيم في شنغهاي

* خدمة «غلوبال فيوبوينت»