في الانتظار

TT

رغم كل ما نستأنس به من الأدب والشعر الذي يرتبط بحياة الجواري والقيان في العصر العباسي، فإننا أصبحنا ننتقد ذلك النمط من الحياة الذي أدى إلى انحلال الدولة وسقوطها، وهو ما عبر عنه محمد مهدي الجواهري في شعره عن عاصمة الدولة العباسية حين قال:

بغداد كان المجد عندك قينة

تلهو وعودا يستحث الضاربا

الحمد للتاريخ أن قد بدلت

تلك الملاعب فاستحلن متاعبا

ولعمري لا أدري لماذا يبتهج الشاعر، أو أي إنسان في الواقع لاستبدال التعب باللعب ويحمد التاريخ على ذلك. ولكنها يا سيدي نفسية العراقيين الذين يحبون البكاء والنحيب واللطم على الصدور. وعلى كل، فطالما حيرني ما قرأته في درس التاريخ في المدرسة بأن المتوكل كان له ألف جارية. فتساءلت: أين كان يسكنهن؟ فحتى لو وضع كل عشر في غرفة لاحتاج لمائة غرفة لسكنهن ولجيش من الطباخين لإطعامهن. ولا أتصور قصور بني العباس وصلت الى هذا الحد من الضخامة والسعة.

ولكن تفسخ البلاط العباسي لم يكن في الواقع فريدا من نوعه؛ فقد كانت قصور ملوك أوروبا تعج بمثل ذلك.. كانت هناك أفواج ممن نسميهن «وصيفات» ويسميهن الإنجليز «Ladies in Waiting»؛ «سيدات في الانتظار» أو الخدمة. مما يجعل المرء يتساءل: ما الذي كن ينتظرنه؟ أو ما الخدمة التي تطلب منهن؟ ورغم الكتمان الذي أحاط الحياة في تلك القصور، فإنه قد وردت حكايات وفضائح تنم عن مدى الفسق والفجور الذي كان ساريا في «الأبلطة» الأوروبية. يبدو لي أن الفرق الوحيد الذي يميز هؤلاء السيدات عن جواري البلاط العباسي والعثماني هو أنهن لم يكن إماء (عبدات)؛ وإنما حرائر، لهن إرادتهن في ترك الخدمة أو الزواج بمن يهوين. من ذلك، أن «السيدة في الانتظار/ الخدمة» آن بولين رفضت تقديم هذه الخدمة للملك الماجن هنري الثامن عندما راودها عن نفسها، وقالت له: إذا كنت تريدني فعليك أن تتزوجني. والظاهر أنها كانت امرأة بارعة، فقد أضرمت نار الشوق في قلب الملك بجوابها وصدودها هذا إلى حد إقدامه على تطليق زوجته ليتزوج بها. ولكنها في الواقع لم تكن على ما تصورت من الذكاء والبراعة، فهي لم تتعظ بما جرى لسواها من الحسان.. فلم تمض غير سنوات قليلة حتى مل الملك منها أيضا فاتهمها بالخيانة الزوجية واستصدر حكما بإعدامها، فقطع الجلاد رأسها في برج لندن. ولكن الإنجليز يعتقدون أن شبحها ظل يحوم ليلا كل يوم في القصر الملكي «هامبتن كورت»، يئن ويتوجع.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وهذا ما لم نسمع مثله في قصور بني العباس أو سلاطين آل عثمان.. كانوا إذا ملوا من جارية أهدوها لأحد الشعراء أو الحكماء، فينظم الشاعر قصيدة يمجد فيها كرم الخليفة وروعة هداياه.