تحديات الثورات العربية

TT

يمكننا أن نقول إن العالم العربي يمر اليوم بفترات حساسة جدا في تاريخه الحديث، والسبب في ذلك المد الثوري المتصاعد ضد الأنظمة الاستبدادية التي هيمنت على هذه البلدان سنوات طويلة، وهذه المشاهد التي نراها اليوم والتي أفرزت نتائج مهمة جدا في إعادة صياغة مفهوم الدولة الحديثة، في منطقة ظلت تحتكم لسلطات غير شرعية وغير منتخبة من قبل الشعوب، هذه المرحلة ستجابهها مجموعة من التحديات الكبيرة، تصل في خطورتها إلى مستوى التحديات التي عاشها العرب خلال مراحل التحرر الوطني بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وما يميز هذه المرحلة أنها مثلت رؤية مشتركة واحدة للشعوب العربية عبر ثوراتها التي انطلقت من تونس مرورا بمصر وليبيا واليمن وصولا لسوريا، وهذا التوحد الثوري الذي يعيشه العالم العربي، يفتح لعهد جديد تسعى الشعوب من خلاله إلى التقاطع النهائي مع سلطة الاستبداد، التي ترسخت نتيجة عوامل تاريخية وثقافية باتت الآن جزءا من ترسبات الماضي، خاصة أن الأنظمة التي تهاوت حتى الآن هي أنظمة قضت عقودا طويلة في الحكم، وظلت تمارس دورها من دون أن تشعر بأن أشياء كثيرة تغيرت في العالم وبقيت هي ترفع شعارات منتصف الستينات من القرن الماضي، ولم يتغير في بنيتها وتركيبتها شيء. وعندما نقول إن هناك تحديات ستواجه الثورات العربية، فإننا ننطلق من ثوابت وشواهد قريبة جدا، فالتغيير الذي حصل في منطقتنا، تغيير في سياقاته التاريخية منطقي ومقبول ولا بد منه بعد أن استهلكت الأنظمة الاستبدادية في المنطقة كل مقومات وجودها وبقائها.

وأحد أهم هذه الشواهد يكمن في أن السبب الرئيسي للثورات العربية يكمن في الوضع الاقتصادي المتردي، الذي وصل بالفرد العربي لحافة الهاوية، مما تطلب منه الانتفاضة والثورة، وبالتأكيد فإن الهدف الأول يكمن في تحسين مستوى المعيشة بما يؤمن الحياة الحرة الكريمة.

والواقع يؤكد أن الجانب الاقتصادي سيكون تحديا كبيرا تواجهه النخب السياسية في البلدان العربية؛ في مصر مثلا تراجعت السياحة التي تشكل العمود الفقري لاقتصاد مصر بدرجة كبيرة جدا في الأشهر الماضية، مما أفقد الكثير من المصريين وظائفهم وباتوا في خانة العاطلين عن العمل، وهذا انعكس على قيمة الجنيه المصري أمام العملات الأخرى، يقابل ذلك هروب الاستثمارات الأجنبية من هذا البلد.

وهذا الحال ينطبق أيضا على تونس التي تراجعت الواردات السياحية فيها بشكل مخيف في الأشهر الماضية.

التحدي الثاني يتمثل في ولادة نزعة الانتقام التي برزت بشكل واضح في مصر وتونس عبر محاكمات رموز النظام السابق ومن معهم من جهة، ومن جهة ثانية، وهي الأكثر أهمية، إقصاء كافة أعضاء الحزب الوطني في مصر والتجمع الدستوري في تونس من الحياة السياسية والوظائف العامة، وهم بالتالي يرتكبون ذات الخطأ الذي ارتكبه الحاكم المدني الأميركي بول بريمر في العراق عام 2003 باجتثاث البعث، وما شكله هذا من خطر كبير على مسارات بناء الدولة العراقية وفق أسس المواطنة وليس الإقصاء والتهميش، دون التمييز بين المذنب المجرم والبريء، وهذا ما ترك آثارا كبيرة بسبب عدم امتلاك الوعي الكافي لتجنب مخاطر يمكن تجنبها.

أما على الصعيد الخارجي، فإن أهم المخاطر تكمن في أن الكثير من الدول الكبرى كانت ترتبط بعلاقات استراتيجية مع أنظمة هذه الدول، خاصة مصر وتونس وليبيا وحتى اليمن وسوريا، وبالتالي فإن هذه الدول لن تفرط بمصالحها بهذه السهولة التي يتصورها البعض، فدولة مثل مصر لعبت دورا مهما في مسارات الصراع العربي - الإسرائيلي في العقود الماضية، وباتت تمثل مركزا من مراكز الاستقطاب، لا يمكن أن تكون خارج هذا الإطار المرسوم لها، خاصة أن بوادر كثيرة في الشارع المصري توحي بأن مصر ما بعد ثورة 25 يناير بإمكانها أن تنسف كل ما اتفق عليه من قبل مبارك ومن سبقه من الحكام، وهذا ما يجعل المنطقة تعود لحالة الحرب في أشكال متعددة.

أما تونس بن علي فإنها كانت تمثل السد المنيع لحركات التطرف في شمال أفريقيا، ووجهت ضربات كثيرة لها في السنوات الماضية، إضافة إلى دور تونس في الحد من الهجرة غير الشرعية صوب أوروبا، مثلها في ذلك مثل ليبيا القذافي، ناهيك عن العلاقات التجارية الكبيرة مع الضفة الثانية للمتوسط.

هذه الاعتبارات أو التحديات على الحكومات الجديدة أن تعيها جيدا، وهذا يتطلب أن تمتلك حسا استراتيجيا يؤهلها لقيادة دولها في المرحلة المقبلة بعيدا عن كل ما يجعل الثورات عبارة عن جثث مشوهة غير قادرة على التعبير عن نفسها والحفاظ على مصالح شعوبها، وعليها أن تدرك جيدا أن الهدف الرئيسي ليس إسقاط الأنظمة، بل الهدف الرئيسي يبدأ بعد سقوط هذه الأنظمة، وأن معركة البناء أكبر وأخطر من معركة هدم وإسقاط الأنظمة الديكتاتورية.