حسنا فعلت الجزائر يا ثوار الصحراء

TT

النخوة والشهامة والإنصاف وإجابة المستجير فوق القوانين، إن لم تكن روحها. ولم يكن مناسبا أن يصف أحد كبار متحدثي المجلس الانتقالي السماح لعائلة القذافي بدخول الأراضي الجزائرية بأنه عمل من أعمال العدوان. فحسنا فعلت القيادة الجزائرية بإعلان لجوء زوجة العقيد ومن معها. فهل كان في نية من وصفتهم في مقالي السابق بـ«فرسان العروبة»، وهو استحقاق تاريخي ثابت، اعتقال امرأة لم نرها يوما على شاشات التلفزيون. (يا عيبة العيبة) كما يقول العرب.

واحدة من سيئات العقيد أنه عرف العالم بنفسه ولم يميز بلده العظيم بقوة شعبه، ولولا قراءتنا لمعارك الحرب العالمية الثانية، التي دحر بها القائد البريطاني التاريخي المارشال مونتغمري قوات ثعلب الصحراء الألماني المارشال رومل لما عرفنا شيئا عن ليبيا. فكل ما سمعناه كان كلاما سخيفا متقلبا بلا ثوابت أخلاقية، وإلا ماذا قدم القذافي للعروبة؟

وباستثناء ما يدخل تحت باب الإجرام، فالذين قاتلوا إلى جانب القذافي أثبتوا التزامهم العهد، وهو صفة قل نظيرها في التاريخ العربي (ومعذرة لمن لا يحب أن تذكر حقيقة مرة من تاريخ العرب). هؤلاء المقاتلون سطروا دروسا في الوفاء والالتزام تجاه من عاهدوه أو انتفعوا منه حتى الآن، على أن يتوقفوا ويتحولوا إلى جانب الثوار، طالما فتحت لهم أبواب الاندماج.

ومن مراقبة المتاح من الوضع الليبي، فإن مصطفى عبد الجليل يتصرف بحكمة وتسامح، ويمكن تشبيهه بجهاز امتصاص واحتواء لثورية الثوار وغلو بعضهم. وعندما استخدم مفردة مناشدة الجزائر أحسن التعبير، لكن لا ينبغي لمناشدته أن تجاب طالما سمح للمعنيين بالدخول!

ثوار الصحراء هؤلاء الذين سطروا ملحمة طرابلس وغيرها لا يليق بهم متابعة الفارين، خصوصا عندما يكونون من النساء، فالمطلوب منهم استكمال القضاء على نظام القذافي، لا سيما أن كثيرا منهم عملوا في النظام وجيشه، وطي صفحة الماضي إلا ما يرتبط بجرائم لا ينبغي الإفلات من عقابها. مثال ذلك إذا ما ظهر أن القذافي قتل السجناء.

وليس مقلقا ولا مستغربا أن نرى مناطق يجابه فيها الثوار، رغم مرور أيام على اختفاء العقيد، فجانب من هذا يعطي طعما قويا لنصر الثوار، وليس كما يصفهم البعض به. خلال مراقبتي البسيطة لسير العمليات تولدت لدي انطباعات عن أن نسبة، ربما كبيرة، من الثوار كانت من الإسلاميين، فلباسهم وشعاراتهم وأقوالهم واندفاعاتهم تدل على ذلك. وهذه الشريحة من الليبيين هي التي كانت أكثر تضررا من نظام القذافي، الذي ثبت أنه أقوى نظام ديكتاتوري بلا منازع. مع ذلك فإنهم أقل غلوا من آخرين. مما يعكس وجود فرص للتفاهم والانسجام بين الثوار. لقد أعطت المملكة العربية السعودية درسا قيما بقبولها لجوء الرئيس التونسي الفار. وساعد القرار في تخفيف معاناة التونسيين، لأن سلوك الرئيس مبارك بالتخلي عن الحكم قد لا يتكرر، وربما من الجنون أن يتكرر. ومن العيب على العرب أن لا يجيروا أفرادا من عائلة القذافي. وما يليق بالثوار وينتظر منهم هو إعادة بسط الأمن وتأسيس حكم جديد. فمشوارهم لا يزال طويلا وصعبا، خصوصا إذا ما دخلوا مرحلة صراع على كراسي الحكم.

حسم الملف الليبي سيفتح أفقا واسعا لمستقبل عربي يتعدى البعد الإقليمي، وسيسهم، إذا ما استغل جيدا، في التأسيس لمرحلة تعيد التوازنات الاستراتيجية في شمال أفريقيا ووسطها والشرق الأوسط والخليج، والدرس الكبير الذي ينبغي الاهتمام به هو أن الطغاة مهما نجحوا في كسب ولاءات عسكرية وعشائرية لا يمكنهم مجابهة إرادة الأغلبية، لأن صوت الأغلبية عندما يكون مستندا إلى الحق والإنصاف والعدل هو صوت الحق وصوت الله الذي لا غالب له، وعندما يكون صوت الله فإنه يوفر له معطيات النجاح، وليس وفق مفهوم كن فيكون.

أما من يتهم الثوار بالعمالة فإنما يجافي الحق. فها هم قادة كبار من نظام القذافي يصفون الدور الخارجي بهبة السماء. فهل هناك من يزايد على (رجال ثورة الفاتح ورفاق عمر القذافي)؟

أما السيد مصطفى عبد الجليل فتواضعه الكريم يسجل له، أما أن يقدم نفسه إلى محكمة عن سنوات اشتراكه في حكم العقيد فسيغلق أبواب التسامح، ويشغل الشعب الليبي عن مهمة البناء، ويعزز الكراهية. وكأن مقولة «اذهبوا فأنتم الطلقاء» لم تسمع.