اختار أن يكون مجنونا!

TT

كان لا بد أن أسأل زميلي عن حاله.. وأنا أعرف حاله.. إنه كان وما زال شابا غنيا.. عنده أرض وعنده مال.. كنا نراه بأعيننا يضع أوراقا كثيرة في جيبه ولم نكن نعرف قيمة هذا المال ولا ضرورته.. ولم نكن نشكو من أننا فقراء..

سألته عن حاله فقال: على أسوأ ما يرام!

فقلت: والأرض والحدائق؟ قال: موجودة كلها..

قلت: ماذا حدث.. هل تزوجت؟ قال: تزوجت وعندي ثلاثة أولاد.. لكن الصحة «تعبانة» جدا.. ويظهر أنها ليس لها علاج أبدا!

ونظرت إلى وجهه وإلى عينيه ولم ألحظ أنه يسعل طوال ساعة كاملة، ولم يكف عن التدخين، ولم أره هزيلا ولا باهت اللون.. ولا بياض عينيه أزرق.. وعاد يقول «هناك حكاية أنت لا تعرفها لكنها حدثت في طفولتي.. فعندما كنت في الرابعة من عمري اختطفني الغجر في بلدنا وظللت أعيش في خيامهم خمسة أيام.. وكنت مربوطا من رجلي.. سجينا في إحدى الخيام.. وعلى باب الخيمة جلس كلب وصاحب الكلب.. وفي الليل كانت إحدى بنات الغجر تسقيني شرابا لا أعرفه، وفي ما بعد أدركت أنه شيء منوم، فكنت أتناوله وأظل هامدا خامدا حتى الصباح، وإذا امتنعت عن الشراب ضربوني.. الرجال والنساء.. فكنت آكل وأشرب عندهم ولا أعترض.. وفي يوم هجم الخفراء على خيام الغجر.. ورأيت أبي وقد أمسك مسدسه، ورأيته يقوض الخيمة ويطلق الرصاص على غجرية كانت تضربني.. رأيت الموت والدم والصراخ.. ولم أنس ذلك حتى اليوم.. وصوت الرصاص ولون الدم وطعمه كلها لم تفارق أذني ولا عيني ولا لساني.. وعندما رأيت أطفالي ورأيت أمهم تضربهم، وعندما رأيت زوجتي تذبح الطيور وأرى دماءها، كنت أصاب بحالات إغماء شديدة، ثم نوبات انهيار.. وجئت القاهرة أعرض نفسي على طبيب»!

وسألته عن الطبيب، فذكر اسما غريبا لم أسمع به من قبل.. وطلب منه الطبيب أن ينصب خيمة وأن يضعها أمام قصره الكبير، وأن يأكل ويشرب وينام فيها، وأن تقوم على خدمته فتاة غجرية!

وقد فعل زميلي كما أمره الطبيب!.. ومضت على ذلك سنتان.. ويقول إن حالته المعنوية أحسن، وإن مخاوفه قد تلاشت، وإنه لا يشكو إلا من الروماتيزم في الشتاء ومن الزكام ومن السعال لأن الخيمة ليست مريحة تماما.. وإنه لم يجد تعليلا معقولا أمام زوجته وأمام أهل القرية إلا أن يطلق لحيته وأن يزهد في كل شيء وهو راغب فيه، وأن يتظاهر بأنه ولي من الأولياء.. وهو يفضل أن يدعي الولاية على أن يقول عنه الناس إنه مجنون!