أرباح الترجمة

TT

يروي الدكتور مصطفى أحمد بن حليم، في «ليبيا.. انبعاث أمة وسقوط دولة»، تفاصيل المراحل التي عاشها رئيسا للوزراء ثم سياسيا ثم منفيا. وتتضح الموضوعية في سرده، خصوصا بالنسبة إلى رجل من داخل الحلقة الحاكمة، مواليا ومعارضا. ولا تبدو ليبيا، عشية ذلك الانقلاب العسكري، دولة خالية من العيوب. فإدريس السنوسي رجل متعب، ومن حوله ضغوط بالية وعسكريون يتربصون. ومن جملة ما فعل أنه وقع تحت ضغوط بعض المقربين لإقالة حكومة عبد الحميد البكوش (قبل الأخيرة) التي كانت أفضل حكومات البلاد. فقد أعطى دكتور الحقوق، البالغ السادسة والثلاثين، صورة جديدة للبلاد، واجتذب الشباب والقوميين، وأقنع إدريس الأول بالقيام بجولة في المحافظات وضعته على صلة مباشرة مع الناس، وأقام المشاريع الحديثة، وبدأ في تنفيذ مشاريع ري حقيقية، وليست مسرحيات كالنهر المصطنع.

أسعدتني قراءة مصطفى بن حليم مرتين في العامين الأخيرين. وكأي إنسان له ضعف شخصي شعرت بارتياح لما أعطى عبد الحميد البكوش من حقوق، بعدما غاب منفيا في مقتبل العمر في أبوظبي؛ حيث تقوم أوسع ديوانية للمنفيين العرب عند الشيخ نهيان بن مبارك.

كان عبد الحميد البكوش كاتبا وشاعرا ومفكرا. وعندما شعر صاحب الانقلاب بخوف شديد من كتاباته وجد الوسائل لمنعه من النشر. وبقي لعبد الحميد الشعر العذب الذي ترك بعضه في عهدة الشيخ نهيان. ولم يتسنَّ لي أن أسأل ابنه إن كان قد ترك لديهم مخطوطات أيضا. فقد فرحت بلقائه حتى نسيت كل شيء آخر.

كان عبد الحميد يمثل الجيل الليبي الثاني بعد الاستقلال، الجيل الذي قدر له تحصيل العلم، والبقاء في منطق الاعتدال وإدراك مدى التخلف، الذي كان لا يزال يضرب ليبيا. وقد حاربه الحرس القديم كما حاربه النفوذ الأميركي، ورأى فيه الاثنان تهديدا لمصالحهما. دمر صاحب الانقلاب آلاف الطاقات والكفاءات وأهل القيم والتقاليد. وبدد 40 عاما من وقت ليبيا وثرواتها ومستقبلها. ولم نعرف من الجيل الذي ولد بعد الانقلاب سوى أبنائه. ويروي بن حليم أنه عندما كثرت الأقاويل حول ثروة ابنته تم الإعلان رسميا عن أنها «جنت ملياري دولار من ترجمة الكتاب الأخضر».

ولا يبدو رقم الترجمة مزاحا أكثر من أرقام الطبع أو التوزيع. ويجب أن نعد أنفسنا الآن لما سيكشف عن أرقام أسطورية ضاعت بين حفلات الأبناء وانهماك الابنة في ترجمة أفكار الأب في محاولته المتواضعة لتقديم النظرية العالمية الثالثة.