والصورة هزلية!

TT

كأن لغما عائما اصطدم بي عندما فوجئت بزيارة زميل قديم من زملاء مدرسة المنصورة الثانوية.. كأن باباً انفتح على حياتي كلها.. وأخذت الحوادث تقفز الواحدة وراء الأخرى.. لقد كان عالمنا صغيرا ولكنه حار ثائر فائر. كنا لا نمشي على الأرض.. وإنما نعلو ونهبط ونرفع أيدينا إلى أعلى ونتعلق بالهواء والأحلام.. كنا نعد أنفسنا لأشياء غريبة.. نقرأ وندرس ولا نحس بالمال ولا بأننا فقراء.. كنا نتعلم الألمانية والإيطالية.. للذة التعليم.. وكنا نتناقش في مشاكل كبرى.. أكبر منا ملايين المرات. وكنا نصدر أحكاما نهائية لا نقص فيها ولا إبرام.

وفي طريقنا إلى المدرسة كنا ننظر إلى بلكونة عالية ونرى فتاة صغيرة لا ندري بها ولا تدري بنا اسمها فاتن حمامة.. سمعنا أنها مثلت في أحد الأفلام.. ولم نر هذا الفيلم إلا بعد ذلك بعشر سنوات.

ولم أكد أرى زميلي هذا حتى تلمست طوقا من الحديد يحيط برأسي.. ولم أدر سببا لذلك أول الأمر.. ثم أدركت.. لقد كان هذا الزميل يجلس بجواري دائما.. وأذكر أن الدكتور هيكل باشا وزير المعارف في ذلك الوقت زار مدرستنا وزار فصلنا في حصة اللغة الإنجليزية ووجه إلينا سؤالا.. ورفعنا أيدينا.. والتلميذ المجتهد هو الذي يحرص على أن يجيب فيمد يده ويرفع أصبعه بشجاعة، ويغضب إذا لم يقع عليه الاختيار.

ومددت يدي ورفعت أصبعي وتطلعت إلى الوزير واختارني ونهضت أو اندفعت لأجيب.. فطار طربوشي في الهواء.. وضاعت الإجابة وسط ضحكات الوزير والطلبة.. وتلمست الطوق حول رأسي.. وتذكرت أنني عندما تقدمت أمام الهلالي باشا مرة أخرى لأتسلم جائزة الفلسفة.. وكنت أول المتسابقين فيها.. استعرت طربوشا من أحد فراشي وزارة المعارف.. وسمعت من ينادي اسمي وتقدمت نحو الوزير ووقعت عيني على ناظر مدرستي وتعثرت في سجاد كبير.. وسبقني الطربوش إلى الأرض.. وسمعت ضحك زملائي القدماء.. وضحك نظار ومفتشو وزارة المعارف جميعا.. وأحسست بالطوق الحديدي يضغط على رأسي!