ثروة بثينة وأخلاق الغرب

TT

لم أكن في يوم من الأيام شخصانيا في تناولي للأمور العامة، لكن يبدو أن بنوك العقول في الغرب قد درست نفسية العربي، فأصبح فعل الحكومات الغربية السياسي شخصانيا؛ حيث زين لهم أن العربي يهوى الشخصنة، ويحب أن يسمع عن الآخرين بالسوء.

مضحك هذا الخبر الذي بثته وسائل الإعلام الغربية الأسبوع الماضي عن مصادرة ثروة بثينة شعبان ووليد المعلم وعلي عبد الكريم، كأن مصادرة ثروة الثلاثة ستحرر الشعب السوري من القهر أو توقظ آلاف القتلى من القبور، أو تطلق سراح عشرات الآلاف من المعتقلين في الزنازين الضيقة. ترى متى سوف يحترم عقولنا هذا الغرب المتردد الذي يكيل بأكثر من مكيال؟

لقد نافق الغرب شخصية مثل القذافي طويلا، وبشكل مبتذل يندى له الجبين، ذهبت إليه الوفود تباعا، ولم يستحي رئيس وزراء غربي أن يقبل يده – على نقيض العادة الأوروبية - زاره توني بلير وطلبت وده كوندوليزا رايس، واستقبله استقبال الفاتحين في باريس عاصمة النور نيكولا ساركوزي، ونصب خيمته في نيويورك.

لم يكن هؤلاء كلهم، بصحافتهم ومؤسساتهم، غافلين عن سوءات نظام القذافي ولا عن طغيان نظامه، ولا عن آلاف القتلى المظلومين في سجونه، ولا عن استهتار وتهتك أبنائه. ذلك كله كان معروفا لديهم مسبقا وطوال سنين ولم تطرف أعينهم عطفا على الشعب الليبي، بل وقتل أزلامه شرطية إنجليزية في وضح النهار في العاصمة البريطانية، وأسقط لهم أكثر من طائرة في الأجواء، لكنهم استقبلوا بلهفة دولاراته النفطية المغموسة بدم الشعب الليبي. تم الصياح على عمر البشير في السودان ونصبت له المحاكم وطورد من مكان إلى آخر وأصدرت في حقه المحكمة الجنائية الدولية مذكرة ضبط وإحضار، فلما انقسم السودان على نفسه، سكت عن البشير وبدأ في تأهيله، لقد تغير السودان، ولم يتغير البشير! لكن موقف الغرب منه تغير. حكام قهر وشهوات وأهواء، لا باطل ينكر عندهم ولا حق يؤخذ، مع ذلك يبقى الغرب صديقا لهم ما دامت مصالحه مؤمنة، يتهمهم لأسبابه ويزيل التهم عنهم لأسبابه.

لقد كشف الغرب في عصرنا الحالي عن تدنٍّ أخلاقي سياسي غير مسبوق، لقد نافق الديكتاتوريات، وعظم من قدرة جمهوريات الخوف على اضطهاد شعوبها، وكانت الأثمان المالية التي دفعت زهيدة، والتضحيات التي قدمتها الشعوب عظيمة وتاريخية.

لم يتقدم أحد من أصحاب العقول وخلايا البحوث في العواصم الغربية ليقول لساسته كفاكم نفاقا ودعما لمثل هذه الأنظمة، تحت ذرائع شتى من القانون الدولي والعلاقات الدبلوماسية ولم تتعمق مراكز البحث هناك في تاريخ العرب، ليعرف ساستهم أن أحد أصول التفكير في ثقافة العرب هو ألا بيعة لمستكره، ولا أكثر من الاستكراه الذي يقوم على منطق معوج؛ إما أن أحكمكم وإما أن أقتلكم.

في الوقت الذي يقتل فيه عشرات في شوارع المدن والقرى السورية يطلع علينا بيان هزيل بتجميد ثروة بثينة ووليد وعبد الكريم، وكأنها القصة التي نريد أن نسمعها منهم، كم تبلغ أموالهم إن جمعت؟ بضعة ملايين من الدولارات، هي أقل من ثمن الرصاص الذي أطلق في الـ6 أشهر الأخيرة في مدن سوريا وقراها، وهي أقل بكثير من ممتلكات أتلفت، ومن شيمة رجال قهروا، ومن دموع نساء رملوا، وأي متنفذ سوري كبير يملك في بنوك الغرب أضعاف تلك الأرقام إن وجدت.

في الوقت الذي يشاهد فيه المواطن العربي، من خلال الفضائيات، بيوت الظالمين خاوية، وقصورهم تنفخ فيها رياح الفراغ، ولم تغنِ عنهم سطوتهم ولا أموالهم فهربوا متسللين. أبناء القذافي وصدام حسين وأصدقاء بن علي وعلي عبد الله صالح لم تكن أفعالهم تخفى على الغرب، فله آذان ولكنها لا تصغي، وله أعين ولكنها كانت لا تبصر أو تتغاضى عن الخطايا. ويريدون منا أن نصدق أن المشكلة هي مصادرة بضعة دولارات لعدد من الأفراد، مهما جل شأنهم فهم زائلون.

الرجل الذي سفه نفسه ليس في طرابلس الغرب ولا في تونس العاصمة ولا في دمشق ولا حتى في صنعاء، إنهم كثر يتكئون الآن على العسكر الذين لم يغنوا نفعا لسابقيهم.

مطلوب من الغرب، الذي يدعي الحضارة، أن يفعل أكثر من المصادرة، أن تمرر قرارات دولية تحت البند السابع بتجريم قتل المسالمين، في أي مكان هم فيه، وبتجريم من يفعل ذلك في المواطنين أصحاب التوق إلى الحرية.

لقد آن الأوان للتدخل الإنساني من أجل إنقاذ عدد أكبر من الناس من القتل العشوائي، سواء في الشوارع أو في السجون، كما أن الوقت قد حل لإقامة محكمة على شاكلة محاكم نورنبرغ، يحاكَم فيها القتلة، لا بسبب ما حل في الماضي ولكن بسبب التوق إلى مستقبل أفضل.

لقد تبين الآن أن معركة تحرير ليبيا قد كلفت 25 ألفا من الضحايا على الأقل، كثير منهم قتلوا صبرا أو حرقوا في المعسكرات، وما زال الحبل على الجرار، من أجل إرضاء حاكم مهووس بصورته وصولجانه وشذوذه.

ليس ذلك فحسب، إنما أيضا المطلوب التدخل الحاسم من خلال المؤسسات الدولية، تأكيدا على أن عصر الظلم العربي لن يعود في المستقبل، وأن أي إشارات للعودة من جديد إلى عصر القهر والهدر واتباع الشهوات، تحت أي ذريعة في المجتمعات التي تحررت، ومن أي قوة مقبلة، بالمطلق، محرمة، ووجب الوقوف أمامها بقوة واستخدام كل الوسائل لفضح التوجهات تلك وهي في المهد، قبل أن يشتد عودها.

تجربة التحرر من الديكتاتورية في منطقتنا مريرة؛ فكلما جاءت فئة فعلت - تحت ذرائع شتى - ما اتهمت الأخرى السابقة بفعله.. فكيف يمكن أن يطمئن الشارع العربي أن ذلك الفعل التهميشي لن يتكرر؟ لن يضمن أحد ذلك إلا بعد أن يقول الرأي العام العالمي القول الفصل، في أنه لا عودة إلى عصر الظلم. ومن واجب الشعوب التي انتفضت أن تجفو تلك البلدان والحكومات إن راوحت في مكانها، خاصة الأعضاء في مجلس الأمن الدولي، الذين تسببت مواقفهم المترددة في إطالة ذبح الضحايا، وما زالت تفعل.

فليس مقبولا من الغرب هذا الموقف الأخلاقي السياسي المتخاذل، وليس مقبولا منه محاولة ذر الرماد في العيون بالاهتمام بالفروع وترك الأصول لا تمس.

آخر الكلام

«سُئل الإمام أبو حنيفة: من أعلم الناس؟ قال: أعلمهم باختلاف الناس». كان ذلك قبل أجيال كثيرة، فكيف يمكن لحزب أن يتسلط على الناس كلهم ويفرض عليهم وجهة نظر واحدة، في القرن الـ21 ويدعي أنه قائد الدولة والمجتمع؟