التسديد بعد التسليف للملعوب الأطلسي

TT

فعل أو افتعال الحروب و«النجدات الرحيمة» بليبيا جعلنا نرى أن الحاكم العربي يتقاسم مع المحكوم استدعاء الأجانب على وجه السرعة والبدء دون أي تريث وكأنما هم مسعفون أتوا بسيارات إسعاف وليس بطائرات تقذف الحمم، تاركة مَن على الأرض إما مَن يتلوى وإما مَن يتخبط في الندم وإما مَن يلفظ الأنفاس وإما مَن يرى بحسرة لهيب الحرائق يتصاعد وبني القوم من نساء وكبار سن وأطفال هائمين في الشوارع. والقول بأن الحاكم والمحكوم تقاسما بطاقة الدعوة لـ«أُولي الحروب» الأطالسة الممتدّين من ضفاف المتوسط إلى ما بعد المحيط إلى آخر أطراف أوروبا لكي يستعجلوا التلبية ويأتوا على أجنحة القاذفات الحارقات القاتلات، يستند إلى أن الحاكم تألّه وتجبّر واعتبر أن المواطن مجرد تلميذ مبتدئ وأنه هو المعلِّم، وفي هذه الحال فإن واجب التلميذ ومعه ذووه هو ما لخصه الشاعر بالقول:

قُم للمعلّم وفِّه التبجيلا

كاد المعلم أن يكون رسولا

وما دامت هذه حاله فليس أمام الجمع المحكوم سوى الرضا، وتلك منتهى القسوة وذروة التجبر، خصوصا أن «المعلم الرسول» أقفل الأبواب أمام الاعتراضات في سياقها الموضوعي. ولأن الحاكم فعل ذلك وكاد المحكوم يختنق وراء الأبواب الموصدة، فإنه وجد نفسه أمام أحد خيارين، أحدهما أكثر مرارة من الآخر. فإما ارتضاء ما هو حاصل وعلى نحو ارتضاء الكوريين الشماليين بـ«عشيرة كيم إيل سونغ»، أي البقاء داخل الأَسْر ما دامت هذه «العشيرة» تتناسل وترفد الأبناء والأحفاد لهذه الكوريا المعزولة عن العالم، والصلة الوحيدة لحاكمها «الرفيق كيم جونغ - إيل» قطاره المصفّح يتنقل به مرة كل بضع سنوات بين الأرض الكورية والأرضَيْن الروسية والصينية، والشبيه بخيمة «الأخ القائد معمر القذافي». وإما البدء بمغامرة قتالية وبما يتيسر من أسلحة خفيفة، وفي الوقت نفسه تحضير مستلزمات ما بعد المغامرة وجذب الذين ذاقوا مرارة كؤوس الحاكم يتجرعونها في ظل الخشية من عواقب الاعتراض، كون الأمر لا يقتصر على التجريد من موقع ومنافع وإنما هنالك ما هو عظيم وقد يكون أعظم. ولأن المغامرة لا يمكن أن تجدي، نتيجة أن كفة الميزان للذين اختاروا النزول إلى ساحة الاعتراض أضعف بكثير من كفة القوى الحاكمة، فإن شعورا تولّد وهو طلب العون من الذي لخَّصه الشاعر بالقول: «... وما من ظالم إلاّ سيُبلى بأظلم». ولقد لبى الأظلم نداء الاستغاثة على وجه السرعة، فهو أصلا متأهّب وجاهز ومغطّى بشرعية دولية لا يهم أنها منقوصة الإجماع، وبعدم ممانعة عربية، لا يهم أنها غير صادرة بقرار عن جامعة ما زالت لم تبدّل ثوب الـ«موسى» وترتدي الثوب «العربي».

المشهد في الفصل الثاني من الملعوب هو كالتالي: المعترضون على الأرض يحاولون ما استطاعوا تحقيق انتصارات. والناجدون يرمون من القاذفات التي هي كأنها الطيور الأبابيل، الصواريخ التي كأنها حجارة من سجيل، وتجعل العصف المأكول يقتصر بسبب دقة الرمي على أسلحة وعتاد ودبابات وطائرات ومنشآت، وأما أهل الحكم فلا يصيبهم مكروه لأن خارطة الطريق الأطلسية تستوجب الإبقاء على الطبيعة الابتزازية للنجدة، ذلك أنها ليست حرصا على فقاعات الحرية والديمقراطية وعبارات من نوع شعب يستحق الحياة الأفضل، وإنما من أجل أن يكتمل التسليف وفق ما هو مرسوم في دفتر الشروط الأطلسي للبدء بمرحلة التسديد، وأيضا وفق ما هو مطموع به من الأطالسة الذين ما زال لعابهم على سيلانه كلما أوضحت تقارير الخبراء لهم حجم ثروات ليبيا وكيف سيتم الجني الذي يختصر الذبول في الوضع المالي والاقتصادي لدول الحلف الحريص على «الحياة الأفضل» للشعب، في دولة يختزن باطنها أجود أنواع النفط.

وإذا جاز الافتراض فإنه مقابل كل تقرير عن العمليات يتضمن عدد الآليات من طائرات ودبابات ومصفحات ومرابض وقواعد ومؤسسات تم تدميرها كان يتم إرساله إلى غرفة العمليات المركزية لـ«الحلف المنقذ»، كان يتم في الوقت نفسه إبلاغ المصانع الحربية وغيرها بأن عليها أن تُدرج في خطتها إنجاز كذا دبابة جديدة وكذا طائرة جديدة وكذا.. وكذا.. وكذا.. من العتاد الذي تم تدميره. وهذا يعني عمليا أن هذه المصانع لن تنتكس، خصوصا أن خارطة الطريق لم تكتمل والقصف لن يتوقف. وهنا نشير إلى أن لغة الأرقام هي خير توضيح لما نقوله لمناسبة الاستضافة «الكريمة» لاجتماع «أصدقاء ليبيا» يوم الخميس الماضي (الفاتح من سبتمبر الساركوزي) من جانب الرئيس الفرنسي مدشِّن صولات النجدة الأطلسية للمعارضين الليبيين لإكمال ثورتهم على «ثورة الفاتح». والأرقام التقديرية لبلد المليوني كيلومتر مربع مساحة مقابل سبعة ملايين نسمة سكانا، وتلك أغرب مفارقة في جغرافيا بلد بالغنى الذي عليه ليبيا، هي أن ترميم ليبيا وتأهيلها مدنيا وعسكريا وخدماتيا ومنشآت نفطية يحتاج إلى خمسمائة بليون دولار على مدى عشر سنين. وإذا افترضنا أن الموجودات الليبية في الخارج هي في حدود مائة وستين بليونا لن تسلَّم إلى الحكم الجديد وإنما سيُقتطع منها أثمان مستلزمات الترميم والتأهيل وإعادة الإعمار، تتولاها بطبيعة الحال شركات أميركية وأوروبية، عملا بمبدأ التسديد بعد التسليف على الدور العسكري، فهذا يعني أن ليبيا ستسدد كالعراق من قبل المبلغ المتبقي من أصل الخمسمائة بليون، وهو ثلاثمائة وأربعون بليون دولار. يا لسوء حظ الجيل الليبي الآتي الذي سيعيش كالجيل الذي أمضى أربعة عقود قذافية مريرة. هذا تماما حال الذي جرى للعراقيين.

في الوقت نفسه لا يتم إبلاغ غرفة العمليات بأعداد الذين قضوا في «الغارات الصديقة» هذه، فهذا أمر لا يعني الأطالسة، كما أنه في بعض جوانبه ليس من ضمن مقتضيات «النجدة الإنسانية»، وأن العقابات على العواقب يهتم بها الليبيون لاحقا، وهو أمر وارد في هوامش خارطة الطريق التي يسير في هديها الملعوب الأطلسي.

رغم كل أيام القصف فإن العقيد معمر القذافي بقي في الصون لا يصيبه أذى، وهذا أمر تستوجبه مقتضيات مرحلة الانتقال من التسليف إلى التسديد. وكلما كان «الأخ القائد» في منأى عن الأذى فإن قدرة «الصديق الأطلسي المنجد» على التفاوض في شأن التسديد تكون أقوى. وهي تزداد قوة في حال لم يعد البيت (حصن باب العزيزية) لساكنه وإنما لـ«الثوار» الذين افترضوا أنهم بالوصول إلى طرابلس ينتهي الطواف والمطاف.

خلاصة واقع الحال أن كل شيء بحسابه، وأن الأمور ستبقى عالقة في انتظار استكمال توقيع الوثائق والاتفاقات التي تتمحور حول تسديد ما تم تسليفه. هكذا حدث في العراق وبات ليس من اليسير تعديل ما بدأ التفاوض في شأنه قبل إسقاط النظام الصدّامي وحتى ما قبل إعدام صدَّام شنقا، مع توضيح المتفاوض الأميركي بأن الإسقاط من فِعله، أما الشنق فمن فِعل العراقيين الذين يحكمون منذ ما بعد غزو العراق، أي بمعنى آخر أن إسقاط النظام «واجب أميركي - أطلسي»، وأما الشنق فإنه مسألة داخلية يتحمل أهل البلد وزرها. والتسليفات المتفق عليها تتطلب التسديد. ولقد طال العثور على صدّام من أجل إنجاز أرقام التسديدات، ويتكرر الأمر بالنسبة إلى ليبيا وإن أخذت الصيغة تعديلات طفيفة.

وبالعودة إلى ما بدأناه نجد أنفسنا أكثر اقتناعا بأن الذي حدث كان عمليا أن الولايات المتحدة وبعض دول الأطلسي استعادت ليبيا وكأنما كانت على مدى أربعة عقود وديعة لدى حُكم كان في أشد الحاجة إلى عقلاء يُسدون إليه النصيحة، لا إلى حواريين يمطرونه بأفكار وبدائل تصلح مادة في جلسة نقاش ولا تصلح لإدارة بلد. وكل ذلك تحت مقولة إنه دائما يصدر من ليبيا جديد. أما بالنسبة إلى العراق فإن الاستعادة لم تحدث بالكامل، وهي مرتبطة باستعادة سوريا إلى السرب العربي، وذلك لتفادي مواجهة مع إيران، وذلك على أساس أن عزْل سوريا عن إيران يجعل شأن الأخيرة ضعيفا ويجعلها أكثر استعدادا، ومن أجل البقاء بأمان، للتعايش مع محيطها العربي ومع المجتمع الدولي، فضلا عن أن العزْل يحدّ من طموحها إلى الدور الذي تحلم به ولم يتحقق، وهو أن تشكِّل مع العراق وسوريا ولبنان التحالف الذي هو من يتخذ قرار إنجاز اتفاق السلام مع إسرائيل، وهو الاتفاق الذي لا يمانع الأطالسة في إنجازه... إنما على أساس أن القبول به هو أيضا نوع من التسليف الذي له استحقاقات التسديد.

بالعودة أيضا إلى ما بدأناه يجوز تكرار القول إن الطرفين في ليبيا، الطرف القذافي الحاكم والطرف المعارض، يتحملان وزر ما أصاب البلد. واللوم على الذي حكم لأنه لم يكن مثل المعارض الذي فقد القدرة على التحمل وارتضى ما جرى... وسيرتضي مرغَما لا بطل بقية فصول الملعوب.