تركيا وسوريا.. هل هي نقطة اللارجعة عن الحرب؟

TT

المتتبع للشأن السوري، لا يسعه إلا أن يضع الاهتمام التركي به في المقام الأول من الاهتمامات الدولية، إذ نص بصراحة غير معهودة على أن «ما يحصل في سوريا هو شأن داخلي لتركيا، نظرا لمشاركتها سوريا حدودا تزيد على 850 كيلومترا». ويكاد القول بين القوسين الصادر عن المسؤولين الأتراك الأشد جرأة في خرق مبدأ (عدم التدخل) بعد الخرق الذي نفذه مبدأ (واجب التدخل) الذي صاغه فرانسوا ميتران قبل نحو 20 عاما من الآن، عندما أقيمت منطقة «الحظر الجوي» لجزء من كردستان العراق لأجل حماية الكرد العراقيين من نظام صدام حسين، عام 1991، والاختلاف بين الخرقين الإيجابيين للمبدأ الدولي، أن ميتران انتصر لحق الكرد، فيما يوحي القول التركي بأن سوريا حديقة خلفية للأتراك أو جزء من الشأن الداخلي التركي، ومنذ التاسع من أغسطس (آب) الحالي، يترقب العالم بلهفة ما يسفر عن الرسالة التركية التي وصفها الأتراك بالحازمة، ونقلها وزير خارجيتهم إلى القادة السوريين، ومن الوصف (الحازمة) من الممكن للمرء الإحاطة بمضمون الرسالة في ضوء ما أدلى به أردوغان حيال سوريا: «لقد كنا صبورين للغاية حتى الآن، والانتظار لمعرفة ما إذا كنا نستطيع حل هذه الأزمة أو أنهم سوف يستمعون إلى ما كنا نقوله، لكن صبرنا ينفد الآن».

ويساعد على الإحاطة بها أكثر ما ورد في تصريح الرجل الثاني في الدولة التركية، أحمد داود أوغلو: «لا يمكن السكوت بعد اليوم عما يحصل في سوريا من سفك للدماء العزيزة علينا»، وتصريحه بأن تركيا لو اضطرت للاختيار فستقف مع شعب سوريا وليس مع نظامه.

وهكذا نجد، أن تصريحي الرجلين يوحيان باجتياح عسكري تركي لسوريا بتفويض من مجلس الأمن أو عدمه، ويقوي من ذلك سلسلة الاجتماعات التي عقدها ويعقدها أردوغان مع القادة الأمنيين الأتراك من المختصين بالأمن الخارجي. عليه وبأخذ أكثر من دليل وقرينة، يتبين أن العلاقة بين أنقرة ودمشق بلغت نقطة اللارجعة عن الحرب، خصوصا أن تركيا التي تدعي أنه «لا يمكن السكوت بعد اليوم»، سيكون هذا السكوت - لو استمر - فيه من الإحراج الكثير، لا سيما أن تراجعها أمام إسرائيل - على خلفية منع الأخيرة لأسطول الحرية التركي الذي كان محملا بالمساعدات إلى غزة - ماثل في الذاكرة، حيث لاحقتها المذلة والخذلان بعد أن خلفت وراءها عددا من القتلى على يد الجيش الإسرائيلي، وفي حينه حذر أردوغان إسرائيل من مغبة التمادي في اختبار ما سماه «الصبر التركي»، إلا أن الأخيرة اختبرته ولم يبق أمام تركيا إلا أن تجر أذيال الخيبة والهزيمة وراءها، كما بينا، غير أن لتركيا هذه المرة، كما يبدو، صبر آخر قد يتوج نفاده باجتياح عسكري لسوريا، علما بأنها كانت قد هددت باجتياح للأخيرة قبل 12 عاما من الآن، عندما مارست الضغط على القيادة السورية لحملها على طرد أوجلان، وحال رضوخ سوريا لضغطها دون وقوع الاجتياح، غير أن الوضع الآن بين البلدين يختلف عما كان عليه قبل 12 عاما، إذا أخذنا بالعلاقة المتوترة بينهما الآن، التي وصلت إلى نقطة اللاعودة عن الحرب كما نوهت.

إن الأسباب التي تزين لتركيا مهاجمة سوريا تتعدد، منها أن الضربة التركية المتوقعة لسوريا ستكون مقبولة لدى العالمين العربي والإسلامي، إلى حد ما، نظرا للسياسة التركية الداعمة للحق الفلسطيني، والمكانة التي تتمتع بها في قلوب العرب والمسلمين جراء ذلك، أضف إليها احتماء المعارضة السورية واللاجئين السوريين في تركيا دون الدول الأخرى، فوجود أقوى حزب إسلامي سوري على رأس المعارضة السورية، الذي تشده ارتباطات قوية بحزب أردوغان ذي النهج الإسلامي. ولا شك أنه إذا كانت الخطوة المقبلة لتركيا هي الحرب، فإنها لن تأتي بمعزل عن مباركة الغرب لها، وإن الغرب جاد في إعلانه بعدم زج الناتو في الحرب ضد سوريا على غرار حربه على ليبيا وأفغانستان والعراق، التي جوبهت وما تزال باعتراضات قوية، وشوهت صورة الغربيين، وفي مقدمتهم الأميركيون، لدى الشعوب العربية ومعظم الشعوب الإسلامية، وفوق هذا فإن التدخل العسكري التركي المرتقب في سوريا، هو تدخل أطلسي مباشر أو غير مباشر، كون تركيا عضوا فاعلا فيه، وتأتي قوتها البرية في المرتبة الثانية في الناتو بعد القوة البرية الأميركية.

عدا الأسباب تلك، فبوسع المراقب أن يجزم بأن العملية العسكرية التركية المحتملة ضد سوريا - فيما لو نفذت - لن تستغرق سوى أيام قلائل وينتهي النظام السوري، استنادا إلى أوجه التشابه بينه وبين النظام العراقي السابق، الذي أسقط بسرعة قياسية، فتفوق القدرة العسكرية التركية على السورية، ناهيكم عن ثورة السوريين التي صمدت كل هذه الفترة وجلبت أنظار العالم إليها، ولا يغيب عن البال أن النظام السوري، بكل المقاييس، أضعف من النظامين، العراقي السابق والليبي الحالي، ولتركيا، كما يعلم الجميع، مصلحة كبرى في مهاجمة سوريا، بالنظر لتعدد ارتباطاتها التجارية والاقتصادية معها، إضافة إلى أن قيام نظام ديمقراطي حر في سوريا تتمتع فيه القوميات والطوائف الدينية والمذهبية بحقوقها، وعلى الأخص الشعب الكردي الذي يشكل القومية الثانية هناك، بعيدا عن التأثيرات والأجندات التركية، لا بد أن يقلق تركيا ويزعجها، ويخطئ من يظن أن سقوط نظام الأسد يلحق الضرر بإيران وحدها، إنما بتركيا أيضا، وبإسرائيل كذلك، التي تجمع كل الأدلة على أن ممارسات النظام السوري كانت في خدمتها، وبفضلها تمتعت حدودها (أي إسرائيل) مع سوريا باستقرار لافت.

ولا يشكل التدخل العسكري التركي المنفرد والمحتمل في الشأن السوري، سابقة في التدخلات العسكرية الدولية المنفردة، فعلى سبيل المثال، قامت الهند بتدخل عسكري لتحرير بنغلاديش (باكستان الشرقية) عام 1972، وفي الثمانينات من القرن الماضي أطاحت القوات الفيتنامية بحكومة بول بوت الموالية للصين في كمبوديا، ولقد علمتنا التجارب أن التدخل العسكري المنفرد لدول من خارج القوتين العظميين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق، كان أقل إثارة للرأي العام، وأنجح في تحقيق أهدافه من التدخلات العسكرية للدولتين العظميين تلك، ومع هذا فثمة حقيقة ليس من الصحيح إغفالها، وهي أن التدخلات المنفردة لدول غير الدولتين العظميين يسبقها ضوء أخضر وفي ظل نظام القطب الواحد، فإن واشنطن ستعطي ذلك الضوء، طبعا، ومن دون ذلك لا يستقيم التدخل، وأفضل مثال على ذلك ما حل بصدام حسين ونظامه يوم احتل الكويت دون إذن مسبق من أصحاب القرار، وعلى رأسهم أميركا، إن لم تدخل على الخط تطورات تتقاطع مع الاتجاه المعاكس لكل من الرسالة التركية (الحازمة) والكلام السوري (الأكثر حزما)، وفي كل الأحوال فإن النظام السوري إلى زوال.

*رئيس تحرير جريدة «راية الموصل» العراقية