بطل وعلم وعصير وقبلة وفلوس

TT

صيف 1956 برأس البر، في العشرين من عمري، أعمل بشباك التذاكر ليلا بسينما فاتن ومديرا لمحطة النيل للطفطف نهارا وهو وسيلة المواصلات الوحيدة المسموح بها في ذلك المصيف الهادئ الذي يرتاده الأعيان والباشاوات وكبار الفنانين، يعمل معي في دار السينما عدد من زملائي في مدرسة دمياط الثانوية، ولكن عطية شمشون لم يكن طالبا، كان إعلانجيا، والإعلانجي في دور السينما في الأرياف والأقاليم هو ذلك الشخص الذي يقوم بتعليق ولصق الأفيشات على الحوائط، وعدته سلم وجردل فيه نشا بديلا عن الغراء وفرشاة. كان يلصق أحد الأفيشات على الجدار الخارجي لإحدى العشش عندما خرجت له سيدة غاضبة وسألته: هل لديك تصريح بتعليق هذا الأفيش على هذه العشة؟

لندع عطية يواصل الحكاية: فقلت لها نعم يا سيدتي، مرخص لنا من مجلس مدينة المصيف، بدأ غضبها يخف وبدأت ملامحها الجميلة تتضح وقالت لي بابتسامة لم يكن من الصعب علي فهمها، ليس لدي وقت للحديث معك الآن، تعال في المساء، وهذا ما حدث، عدت إليها بعد صلاة العشاء، وجدتها في انتظاري في صالة العشة الخارجية، كانت ترتدي روبا أزرق وتحته قميص نوم شفاف لونه أحمر، دعتني للدخول فدخلت، قالت لي إن رائحتي كريهة، نشا وعرق، أدخلتني الحمام وطلبت مني في صرامة أن أخلع ملابسي استسلمت لأوامرها، وقفت تحت الدش بينما أمسكت هي بالليفة والصابونة وأخذت تحميني برقة وحنان، جاءت لي بملابس داخلية وبيجامة من الحرير، وفي غرفة النوم قالت لي، طبعا انت ما بتشربش، بس أنا عارفه مزاجك، فتحت درج الكومدينو وأخرجت حتة حشيش تيجي ربع تربة، كان العشاء فراخا محمّرة، زوجها قاض يعمل في محافظة بعيدة.

عندما حكيت لزملائي ما حكاه لي وقبل أن أدخل في التفاصيل قالوا لي: ياه.. كل العمال في السوق المجاور حدثت لهم نفس الحكاية مع تغييرات بسيطة في التفاصيل، مهنة الزوج مثلا، فهو أحيانا يعمل قاضيا أو مديرا للأمن أو وكيل نيابة، أما الثوابت في الحكاية فهي الحمّام والملابس الحريرية والحشيش والفراخ المحمّرة - لم يكن السيد كنتاكي قد توصل بعد إلى اختراعه المدهش - وهي إشارات من اللاوعي الجمعي لا يصعب فهمها، هذه الطبقة الكادحة تحلم بالغذاء الجيد والنظافة وعدة أنفاس من الحشيش ثم الانتقام في الفراش من كل الأقوياء.

هذا هو ما أسميه «التأليف الخارج عن الفن» وصاحبه ليس كاذبا أو صاحب موهبة في التأليف مقموعة أو مكبوتة، بل هو شخص في حاجة لأن يؤثر فيك بشكل أعمق بأقوى مما تتيحه له قدراته الطبيعية من لحظات الرضا عن النفس، أي أن إحساسه بالانتصار يتولد فقط عندما تشعر بالانبهار مما يحكيه، وما حكاه لي عطية لا خطر فيه ولا تترتب عليه أية متاعب، كان فقط بحكايته يريدني أن أشعر تجاهه بالمزيد من الاحترام والإعجاب، ولكن تخيل لو أنه يعمل صحافيا أو رئيسا لتحرير صحيفة أو مسؤولا عن برنامج في فضائية من الفضائيات أو مشتغلا بالسياسة، عندها سيعطي ظهره للواقع وينشغل عنه بصنع واقع لا وجود له بهدف أن يبهرك. خذ هذا المثال.. داعية ديني وسياسي يحكي ذكرياته عن فترة مخاض الثورة في ميدان التحرير، يحكيها لمذيع منبهر، قابله في الميدان شخص من المتظاهرين وقال له: ما اعرفش مين فينا حيموت قبل التاني.. أمانة عليك، لو مت قبل مني، عاوزك تسلم لي على سيدنا حمزة.. قال ذلك وطب ميت برصاصة في رأسه.

الطلب غريب غير أنه ليس كافيا لإحداث كمية الانبهار المطلوبة، لذلك كان يجب أن تقتله رصاصة في التو واللحظة، ترى كيف عرف هذا الشخص أن الداعية بعد أن يموت سيذهب إلى نفس المكان الذي يوجد به سيدنا حمزة؟

وحكاية أخرى لنفس الداعية: وظهر عدد من البلطجية أعلى كوبري أكتوبر، وصعد إليهم عدد من شبابنا واشتبكوا معهم وبعد لحظات فوجئنا برأس تلقى على الميدان من فوق الكوبري.

وهنا يقول المذيع المنبهر: دبحوه؟

فأجاب: نعم.

بالتأكيد قتل أناس كثيرون في أحداث الثورة، ولكن حكاية الرأس التي قذف بها من أعلى الكوبري لم يسمع بها أحد من قبل، ولو كانت قد حدثت لتحدث عنها ألف مصدر ومصدر وصورتها مئات الكاميرات، ولكنها الرغبة في الحصول على أعلى درجات التأثير في المشاهدين والسامعين ولتذهب الحقيقة إلى الجحيم. ننتقل الآن إلى موقعة العلم وكم التأليف الخارج عن الفن حولها، في البداية ظهر بطل الحكاية وهو أحمد الشحات الذي أعطاه محافظ الشرقية شقة ووعده بوظيفة، وعلى الفور ظهر بطل ثان هو مصطفى كمال جاب الله الذي أكد أنه هو الذي أنزل العلم وحكى هو الآخر حكايته (وعن تفاصيل ما شاهده أعلى سطح السفارة أشار إلى أنه وجد لافتة قام بإلقائها من أعلى المبنى مكتوبا عليها باللغتين العبرية والعربية، أرض إسرائيل من النيل للفرات - في الغالب اللافتة موجودة فوق سطح العمارة لكي يتمكن ركاب الطائرات من قراءتها – بالإضافة إلى وجود صور لبعض الزعماء اليهود معلقة على أحد الحوائط، مشيرا إلى أن بعض الأشخاص اليهود الذين كانوا يضعون قبعات على رؤوسهم - يقصد أنهم جماعة من الحاخامات - شاهدوه وهو ينزل العلم الإسرائيلي، ولفت كامل إلى أن العلم الإسرائيلي الذي قام بنزعه من الساري مدون عليه تاريخ السنة الميلادية 2009 بالإضافة إلى وجود منفذ له باب حديدي مرسوم عليه نجمة داود يصل إلى السطح - الوفد 28 أغسطس/ آب 2011) غير أن القصة كان من المستحيل أن تمضي بغير ظهور للأنثى ولذلك (أشار إلى أنه أثناء نزوله قامت إحدى قاطنات العمارة المجاورة بفتح شرفتها وطلبت منه المرور ليدخل شقتها وقامت بإعطائه كوبا من العصير - في «المصري اليوم» الصادرة في نفس اليوم: قامت السيدة بتقبيله وإعطائه قميصا من قمصان زوجها و500 جنيه بالإضافة إلى العصير بالطبع. ترى ماذا سيحدث عندما يكتشف زوجها غياب هذا القميص، وماذا سيكون عليه موقفه بين جيران العمارة عندما يعرف أن زوجته قامت بتقبيل رجل غريب، أنا واثق أنه سيغفر لها أنها أعطته كوب عصير، وربما يغفر لها أيضا أنها أعطته خمسمائة جنيه من مصروف البيت، وحتى لو قالت إن المبلغ من مالها الخاص، ألن يدفعه ذلك إلى التفكير في أنها تقتطع أجزاء من مصروف البيت - يعني بتحوش من وراه - ولكن حكاية القبلة هذه، ألن توقظ العفاريت في رأسه؟ ألن يترتب عليها أن يخترع كل واحد من سكان العمارة حكاية تتناول تفاصيل هذه القبلة والجو الذي حدثت فيه.. ألن يحدث أن يقابل أحد السكان العابثين السيدة في الأسانسير ويقول لها.. أنا كمان نزّلت علم أميركا.. ممكن أطلع معاكي آخد العصير؟

سترك يا رب.