غياب مؤرخ مثير للجدل

TT

غاب المؤرخ اللبناني الدكتور كمال الصليبي تاركا خلفه أعمالا كثيرة وجدلا كثيرا. كتب في تاريخ لبنان ما يعتقد أنه أكثر النصوص منهجية وجدية وعلمية. لكنه وضع كتبا أخرى عن تاريخ المسيح وبعض الشخصيات التوراتية، اعتمد فيها الأسلوب النقدي، كما حاول تجريد المسيح من هالته الدينية، جاعلا منه شخصا عاديا تدور من حوله حكايات عادية. على أن أشهر أعماله صدر في الثمانينات بعنوان «التوراة جاءت من جزيرة العرب».

ويقوم مؤلفه هذا على التشابه بين الأسماء الواردة في التوراة وبين بعض المواقع الحالية في عسير وعُمان وغيرهما. وينتقي تلك الأسماء، واحدا واحدا، لكي يؤكد أن العصر التوراتي كان في عسير وبقية الجزيرة وليس في أرض فلسطين. لست في مقام يسمح بتفنيد أبحاث الدكتور الصليبي. ولا أعرف ماذا أغفل، أو لماذا أغفل كل ما أغفل، أو هل فعل ذلك عمدا، أو هل يعقل أن ذلك لم يخطر لرجل مثله.

على أنني أعتقد أن الصليبي قلب الأشياء في مطالعته. فبدل أن يعتبر أن الأسماء ذهبت من فلسطين إلى الجزيرة العربية، خلال هجرتين يهوديتين، رأى أنها جاءت من هناك. وأغفل أيضا أن ثلاثة أرباع التوراة مكتوب باللغة الآرامية وربعها فقط بالعبرية. القسم العبري قبل بابل، والقسم الآرامي بعدها. ولم يرد في القسمين اسم عسير ولا أي كلمات عربية أخرى، فكيف تكون قد جاءت من جزيرة العرب. ومعروف أن أي حاخام يجب أن يدرس اللغة الآرامية، وإلا استحالت تسميته.

حاول الصليبي أن ينقل فلسطين كلها إلى الجزيرة. وفعل ذلك بأسلوب جذاب، مستندا بالدرجة الأولى إلى شهرته العلمية. وقد سانده وأيده عالم ألماني شهير، كما قال، لكن كتابه ظل من دون اعتراف علمي عام، فبقيت التوراة حيث هي. وظلت لكتبه في التاريخ المعاصر أهميتها، بسبب ما توافر لها من مراجع موثوقة.

كان كمال الصليبي آخر من غاب في جيل المدرسين الكبار الذين عرفتهم الجامعة الأميركية في بيروت، ممن تركوا آثارا أدبية وتاريخية لا تنسى: الدكاترة زين زين ومحمد يوسف نجم وأنيس فريحة ويوسف ايبش وشارل مالك وانطون غطاس كرم، وصف طويل من الأكاديميين. كانت الجامعة الأميركية بطاقمها التعليمي ونوعية طلابها القادمين من أنحاء العالم العربي، وحتى من إيران وأفغانستان والهند، رمز تفوق لبنان كقاعدة تنويرية في الشرق. وكان الطالب يحمل شهادة التحصيل ومعها شهادة التميز بكونه انتمى إلى ذلك المناخ العلمي والثقافي، المتعدد والمتنوع. وقد أعطى كمال الصليبي لذلك المناخ، ومثل سواه، أخذ منه أيضا. فالأستذة في الجامعة كانت شهادة هي أيضا.