السقوط الأخلاقي يأتي أولا

TT

أول الدروس المستفادة من سقوط نظام مبارك في مصر في الحادي عشر من فبراير (شباط) 2011، بالنسبة لبقية الدول العربية التي قامت بها ثورات وتلك التي لم تطلها الثورات، هو أن النظم السياسية تسقط أخلاقيا قبل أن تسقط سياسيا. هذه مقولة فيها تلخيص لكتاب كامل سوف يصدر لي قريبا عن الأحداث الصغيرة التي أسقطت نظام مبارك أخلاقيا في نظر الشعب قبل السقوط السياسي للنظام.

السقوط الأخلاقي لنظام مبارك هو الذي أدى إلى تصدع معمار الحكم، وهو الذي أدى أيضا إلى السقوط السياسي السهل الذي رأيناه. وفي هذا الكتاب أسرد سبع قصص كرمزيات للسقوط الأخلاقي، فرغم صغر القصص، بمعنى أنها لم تكن أحداثا كبرى بل كانت قصص أفراد عاديين، فإنها كانت هي الأساس في السقوط الأخلاقي لنظام مبارك.. كانت سببا أساسيا في التآكل التام لشرعية النظام وتجريفه وتعريته.. جعلته من الهشاشة لدرجة أن أول حجر ألقاه الشباب يوم 25 يناير (كانون الثاني) 2011 «جاب عاليها واطيها». سقطت قلعة مبارك التي بناها من الأوهام بمجرد أن رفع الشباب لافتة «الشعب يريد إسقاط النظام»، وذلك لأن النظام كان ساقطا أخلاقيا قبل المظاهرات.

كانت قصة اختفاء الصحافي رضا هلال في «عز الضهر» وفي قلب القاهرة رمزية تجمعت فيها خيوط لأحداث سابقة ولسلوك جديد في الحكم. اختفى رضا هلال ولا نعرف له أثرا حتى اليوم، باستثناء بعض الوثائق التي تقول إن وزارة الداخلية خطفته وعذبته حتى الموت، لكننا لا نستطيع الجزم بصدقيتها. النقطة الأساسية التي اتضحت في هذه الحادثة هي أن النظام لا يتورع عن فرم من تحوم حولهم شبهة المعارضة.

أما القصة الثانية التي جسدت الفجوة المشاعرية بين النظام والشعب، فهي قصة العبارة «السلام 98» التي غرقت في عرض البحر الأحمر في 2 فبراير 2006، وبينما يلملم المصريون جثث ذويهم (1400 مصري غرقوا في البحر) كان الرئيس وأولاده وأعضاء حكومته يحضرون مباراة لكرة القدم في نهائي كأس أفريقيا باستاد القاهرة. في وقت يخيم الحزن فيه على الوطن، كان الرئيس وحكومته في منتهى البهجة يتابعون المباراة.. كان الوطن حزينا وكان أهل الحكم يحتفلون في استاد القاهرة.. كانت الأمهات مكلومة وكان نظام مبارك يحاول أن يحل مشكلة بين لاعب كرة في الفريق القومي وحسن شحاتة مدرب الفريق.. كانت الصورة معبرة، الرئيس في واد والشعب في واد آخر.

لم يفت المصريين عقد مقارنة بين الحزن الوطني الذي داس عليه الرئيس وحكومته، والحزن الشخصي للرئيس الذي جعل منه الإعلام الشمولي حزنا وطنيا يجب أن تنكس فيه الأعلام.. كان ذلك بعد حادثة العبارة بثلاثة أعوام، وتحديدا في 20 مايو (أيار) 2009، يوم موت حفيد مبارك. يومها تحول حزن الرئيس الشخصي إلى جنازة وطنية. أي أن حزن الوطن على 1400 مصري غرقوا في حادثة العبارة لم يكن مهما ولم يكن شأنا وطنيا، أما موت حفيد الرئيس فكان واجبا على الإعلام أن يحول هذا الحزن الشخصي إلى جنازة وطنية. هذا السقوط الأخلاقي لم يمر على الشعب مرور الكرام، وبقيت المقارنة، وبقي الحديث عن خروج صاحب العبارة خارج الوطن من دون محاكمة حتى الآن رمزا من رموز السقوط الأخلاقي للنظام.

أما الحادثة الثالثة، رغم أن البعض قد يستنكر علاقتها بالسقوط الأخلاقي للنظام، فكانت حادثة مقتل سوزان تميم في دبي. ففي هذه الحادثة عرف المصريون أن النظام أنتج رجالا من أمن الدولة لم تقتصر «بجاحتهم» على داخل مصر، بل يستطيعون القتل خارج الحدود، كما أنتج النظام رجال أعمال يظنون أنهم قادرون على امتلاك كل شيء بما في ذلك البشر، وإذا خالف أحد رغباتهم قتلوه. هذه رسالة لم تفت على الشعب، فالنظام أنتج مجموعة ممن يتحكمون في اقتصاد مصر وأمنها، هم مجموعة من المجرمين، أو هكذا فهم الناس ملخص مقتل سوزان تميم.

أما الحادثة الرابعة التي كانت تمثل السقوط الأخلاقي لنظام مبارك، فهي حادثة قتل المواطن خالد سعيد في الإسكندرية، ذلك الشاب الذي أصبح أيقونة الثورة مثله مثل مجمد البوعزيزي في تونس، فمن خلال صفحة «كلنا خالد سعيد» انطلقت شرارة الثورة.

الحادثة الخامسة كانت زواج جمال مبارك، فالمصريون كانوا يتحدثون عن علاقة المال بالسياسة همسا وفي إطار الإشاعات، ولما تزوج جمال مبارك خديجة الجمال، ابنة أكبر رجل أعمال في مصر، أصبح ارتباط المال بالسياسة ليس مجرد إشاعة، وإنما هو عقد قران رسمي.

الحادثة السادسة كانت عندما قام رجال النظام بالاعتداء على الصحافي عبد الحليم قنديل وتجريده من ملابسه والإلقاء به في الصحراء لأنه أساء إلى عائلة مبارك، واشمأز الشعب من تلك الحادثة أيما اشمئزاز.

أما الحادثة التي كانت الضربة القاضية للنظام فهي تزوير الانتخابات البرلمانية في 2010، ولم يكن التزوير وحده هو السبب، بل رد فعل مبارك في أول خطاب له أمام البرلمان، حين قيل له إن المعارضة تريد أن تقيم برلمانا موازيا لهذا البرلمان، فرد ببلادة قائلا «خليهم يتسلوا».. البلادة السياسية نفسها التي مارسها مبارك في حادثة العبارة ومباراة كرة القدم.

هذه الحوادث السبع السابقة هي التي أدت إلى السقوط الأخلاقي للنظام، ومهدت إلى سقوطه السياسي السريع.