يحيا المبدأ الرابع

TT

في صيف عام 2000 كتبت مقالا على الصفحة الأخيرة، من صحيفة «الوفد» المعارضة في القاهرة، كان عنوانه: «يسقط المبدأ السادس!».. وكان المبدأ المقصود في العنوان، هو سادس مبادئ ثورة يوليو 1952 الذي كان يقول بأن الثورة سوف تسعى إلى «إقامة حياة ديمقراطية سليمة».

وكانت الفكرة في المقال، يومها، أن الثورة المصرية عندما قامت في حينها، فإنها قد رتبت مبادئها الستة، ترتيبا محددا، بحيث جاء مبدأ إقامة حياة ديمقراطية سليمة، في الآخر تماما، فأمامه كانت هناك خمسة مبادئ تسبقه، ابتداء من التعهد بالقضاء على الاستعمار وأعوانه، ومرورا بالقضاء على الإقطاع، والقضاء على سيطرة رأس المال والاحتكار، ثم انتهاء بإقامة عدالة اجتماعية، ومن ورائها إقامة جيش وطني قوي.. حتى إذا جئنا إلى مبدأ «إقامة حياة ديمقراطية سليمة» اكتشفنا، ونحن نستعرض المبادئ الستة، أن هذا المبدأ، هو الأخير، وأنه لا شيء من بعده بطبيعة الحال، سوف تسعى الثورة إلى تحقيقه.

ولأمر ما، كان تقديري حين تناولت الموضوع، قبل 11 سنة من الآن، أن ثوار يوليو، كانوا قد تعمدوا وضع هذا المبدأ، في هذا الموقع، بين سائر المبادئ، لا لشيء، إلا لأنهم - في ظني - لم يكونوا جادين بما يكفي في تحقيقه، إذ كان عليهم أن يحققوا مبادئ خمسة كاملة، قبل أن يحققوه هو، وبما أن المبادئ الخمسة إياها في حاجة إلى وقت طويل، حتى تتجسد على الأرض، فإن دور المبدأ السادس، حين يأتي عليه، سوف يقطع زمنا أطول مما نتخيل.. وكنت أتصور، وقت كتابة مقال «الوفد» أن جمال عبد الناصر ورفاقه، في الثورة، قد جعلوا مبدأ إقامة حياة ديمقراطية سليمة، رقم ستة، بين المبادئ، على أساس أنه مبدأ لا لزوم له عندهم، وأنه زائد على الحاجة، وأنه، لذلك، جاء في آخر القائمة، وأنه لا وقت ولا صدر لهم إزاءه، وأنهم وضعوه - أصلا - على سبيل ذر الرماد في العيون.. وأنهم.. وأنهم.. إلى آخره.. وكان عليهم، في تقديري - وقت أن كتبت عن المسألة إجمالا - أن يجعلوه رقم واحد، بين المبادئ الستة، دون منازع!

اليوم.. لا أجد حرجا، في أن أراجع نفسي، لأقول بأن مكان المبدأ السادس، بين المبادئ الستة، كان هو المكان الصحيح.. ليس كراهية في الديمقراطية طبعا، كمبدأ، وليس رفضا لها، ولا ضيقا بها، ولا أي شيء من هذا القبيل أبدا.. وإنما لأنك، كبلد، في حاجة فعلا إلى تحقيق أشياء كثيرة على الأرض، قبل أن تفكر في إقامة حياة ديمقراطية سليمة، كما أراد عبد الناصر وزملاؤه.

الديمقراطية ليست زرا يضغط عليه الراغب في تحقيقها، فتتحقق على الفور، وليست قرارا يصدر اليوم، ليكون عندنا ديمقراطية غدا، وإنما هي خاتمة طريق تتراكم عليه الخبرات والخطوات، بحيث تؤدي جميعها، في النهاية، إلى مجتمع «جاهز» لاستقبال الديمقراطية، كعملية مكتملة، وإقامتها على أرضه.

لا أحد بالطبع يعرف نيات عبد الناصر وزملائه في مجلس قيادة الثورة، في ذلك الوقت، ولا أحد يعرف ما إذا كانوا قد وضعوا الديمقراطية، كمبدأ، في هذا الموقع المتأخر، إدراكا منهم، بأنها تحتاج بالضرورة إلى خطوات كثيرة تسبقها، وهي خطوات على المجتمع أن يقطعها، قبل أن يصل إلى ديمقراطيته الخاصة.. لا أحد يعرف تلك النيات.. ولكن ما نعرفه، من خلال ما جرى على أرض مصر، من عام 1952 إلى اليوم، أنهم، أي ثوار عام 1952 لم يكونوا جادين في إقامة حياة ديمقراطية سليمة على أرض الوطن، ليس لأنهم وضعوا المبدأ الخاص بها، في هذا الموقع المتأخر، فهذا، في اعتقادي، هو موقعه الطبيعي، كما أشرت، وإنما لأنهم لم يكونوا جادين في تحقيق ما يسبقه، كمبدأ، وما يسبقها، كديمقراطية، وبالتالي، فقد ظللنا نتكلم عنها، على مدى السنين الممتدة من الثورة، إلى اليوم، دون أن يتحقق منها شيء.. أي شيء!

ولو سألتني عن المبادئ الخمسة التي سبقت المبدأ السادس، وعما إذا كان علينا أن نركز على واحد منها، دون الآخر، فسوف أختار المبدأ الرابع، على الفور، ودون تردد للحظة واحدة، وهو المبدأ الذي يدعو إلى إقامة عدالة اجتماعية.. فهذا المبدأ، وحده، كفيل حين يتحقق، بأن يجعل الكلام عن إقامة حياة ديمقراطية سليمة، كلاما له معنى.. أما قبل ذلك.. أي قبل أن تتحقق عدالة اجتماعية فعلية في البلد، فإن الكلام عن إقامة حياة ديمقراطية سليمة، يظل من قبيل الأماني، والأحلام، بل والأوهام!.

وحتى يكون الكلام محددا، ومنضبطا.. ودقيقا، لا بد أن يقال إن إقامة العدالة الاجتماعية بين المواطنين، لها وجوه، وأشكال، وصور كثيرة، ولا نعرف أي وجه من وجوهها، كانت ثورة عبد الناصر وزملائه، تقصده، غير أني على يقين، من أن وجهها الأول، وربما الأول والأخير معا، هو أن يتلقى المواطنون تعليما جادا وحقيقيا في مدارس وجامعات، فلا شيء مثل التعليم، ولا شيء قبله، ولا بعده، يمكن أن يقيم عدالة اجتماعية بينهم، ويجسدها بالفعل كما يجب أن تكون.

إتاحة فرصة التعليم بمعناه ومحتواه الحقيقي لكل مواطن، هي التي تحقق مبدأ العدالة الاجتماعية، بين المواطنين كافة، في صورتها المُثلى، ويكفي هنا أن نشير إلى أن إتاحة هذه الفرصة أمامك، وأمامي، وأمامه، وأمامها، كفيلة بأن تجعلنا جميعا شركاء في الثروة العامة للبلد، بشكل مباشر، وغير مباشر، لأن الإنسان المتعلم، قادر بتعليمه، ومن خلال المهارات التي ينميها فيه التعليم، على أن يجد عملا، ويعمل، ويشارك الآخرين، في المجتمع، بالتالي، ثروة البلد، أيا كان نوعها، فيحصل على نصيبه منها، بفضل تعليمه، وليس بفضل أي شيء آخر!

بل إنني لا أبالغ بأي درجة، إذا قلت، إن تحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية، بهذا المعنى، كان كفيلا وحده، بتحقيق باقي المبادئ كلها، وليس مبدأ إقامة حياة ديمقراطية سليمة فقط.. وبما أن المبدأ الرابع لم يتحقق، بالمعنى المشار إليه، فإن سائر المبادئ، لم تتحقق طوال السنوات التي مرت من الثورة، إلى يومنا هذا، وإذا كنا في حاجة إلى شيء اليوم، فنحن في حاجة إلى أن نعيد طرح المبادئ الستة من جديد، بشرط أن نضع الرابع، أولا، ثم نسعى جادين إلى تحقيقه.. وساعتها، سوف تتحقق المبادئ الخمسة الباقية، تلقائيا.. أما قبل ذلك، فإننا نبدد طاقتنا، ووقتنا، فيما لا طائل من ورائه، ونظل أشبه بمن يصب، طول الوقت، خارج الكأس!