الاعتدال ضمانة لنجاة «الربيع العربي».. ونجاحه

TT

كسّروا الأقلام.. هل تكسيرها يمنع الأيدي أن تنقش صخرا؟

قطّعوا الأيدي.. هل تقطيعها يمنع الأعين أن تنظر شزرا؟

أطفئوا الأعين.. هل إطفاؤها يمنع الأنفاس أن تُصعد زفرا؟

أخمدوا الأنفاس.. هذا جهدكم، وبه منجاتنا منكم، فشكرا

(خليل مطران)

* عندما قال العقيد معمر القذافي في أحد آخر لقاءاته الإعلامية: «الشعب يحبني، وهو مستعد للموت من أجلي»، كان صادقا جدا مع نفسه. فـ«الأخ» قائد الثورة الليبية، مثله مثل «إخوة» آخرين ممن تصوروا أن الله - عز وجل - خلقهم ثم «كسر القالب»، يؤمن حقا بأنه أبقى من الشعب، وهو إنما جاء نعمة من نعم الخالق يحرم على جاحدي الشعب الكفر بها والتشكيك بحقها الطبيعي في أن ترث الأرض وما عليها.. جيلا بعد جيل، لا سيما، بعدما أنجب لبلاده الصابرة أبناء «تاريخيين» مثله، دأبهم مواصلة مصادرتها وامتهانها وإذلالها.

القذافي اليوم، كما كان صدام حسين من قبله، «حالة متطرفة»، لكنه حتما ليس «حالة فريدة» ضمن حالات الديكتاتوريات العائلية المتخلفة والمتحكمة بما كان في يوم من الأيام جمهوريات في عالمنا العربي. كذلك، فإن القذافي - كغيره من رموز الديكتاتوريات العائلية - أفلح على امتداد عقود في تفتيت وحدة مجتمع بلده وتمزيق نسيجه، مما سهل له لفترة طويلة إلغاء الظروف المواتية لنشوء معارضة منظمة ومنفتحة قادرة على أداء دورها الطبيعي في المساءلة والرقابة.

في اليمن وسوريا، حصل الشيء نفسه خلال حقب زمنية متقاربة طولا.. فالقيادة في البلدين ترى نفسها أهم من الشعب وأبقى وأغلى، وليذهب الشعب إلى الجحيم إذا كان في ذلك ضمانة لديمومة تسلط «القيادة التاريخية» الملهَمة.. كما يقول أتباعها.

اليوم، مثلا، يستحيل إقناع أمثال سلطان البركاني وعبده الجَنَدي وطارق الشامي وياسر الصنعاني بأن الرئيس اليمني علي عبد الله صالح في نهاية المطاف.. رجل سياسي قد يخطئ وقد يصيب، مع أن منطق السياسة الجادة يقول إنه كرئيس فقد شرعية حكمه بعدما سقط مدنيون أبرياء بسلاح السلطة، وفقد شرعيته أيضا لعجزه عن استشراف ما أعده الحوثيون ونفذوه في شمال اليمن، وهذا بعدما كان منذ وقت غير قصير - وعبر صناديق الاقتراع - قد فقد أي شرعية تمثيلية في معظم جنوب البلاد وشرقها. إن حكما عائليا يمسك بكل أجهزة الاستخبارات والأمن، ومع ذلك يفوته نجاح جماعات متمردة، تعيش في مناطق جبلية - يفترض أنها معزولة نسبيا - في بناء ترسانة مسلحة بدعم خارجي امتد لسنين، ثم يصمدون كما صمدوا في وجه قوات الجيش.. لا يحق له الادعاء أنه يترأس سلطة سياسية حقيقية.

وما نراه راهنا، في وجه انتفاضة شعبية واسعة وشاملة تمكنت حتى الآن من الصمود والإبقاء على تحركها سلميا لكنها عجزت عن الحسم، يواصل صالح هروبه إلى الأمام بالدعوة إلى الاحتكام لصناديق الاقتراع.. طبعا بينما يحتفظ ابنه وابن أخيه ومن يلوذون به وبهما بمواقعهم في مراكز القرار والتحكم. وهو على الرغم من الدماء البريئة التي أريقت، والاضطراب الأمني المنتشر في مناطق عديدة من اليمن، ناهيك بمحاولة الاغتيال التي كادت أن تودي به في قلب عاصمته، فإنه مصر على ممارسة سياسة «شفير الهاوية» وصولا إلى الحرب الأهلية.

في سوريا، الوضع قد يختلف من حيث التفاصيل، لكنه لا يختلف كثيرا من حيث الجوهر.

فالنظام السوري، الذي كان حتى الآن النظام الجمهوري العربي الوحيد الذي أنجز حقا غاية التوريث السياسي، يضع الشعب بعد ستة أشهر من القمع الدموي الفظيع أمام أحد خيارين، لا ثالث لهما: إما استمرار الهيمنة بقوة القمع و«الشبيحة»، أو الزج بالبلاد والعباد في أتون الفتنة الطائفية التي ينفخ في بوقها.. مبتزا الشعب بالتقسيم. وهذا بالضبط، ما تنم عنه العمليات العسكرية في جبل الزاوية وأرياف حماه وحمص إلى الشرق من محافظتي اللاذقية وطرطوس. بكلام آخر، نحن هنا أيضا إزاء حالة ابتزاز بالحرب الأهلية في ظل إحجام الشعب عن التسلح وامتناعه عن مواجهة السلاح بالسلاح. ولكن بالنظر إلى اختلاف التركيبة الاجتماعية والديموغرافية السورية عن التركيبة اليمنية، يراهن نظام دمشق على زرع الخوف في أوساط الأقليات الدينية والمذهبية والعرقية، وبالتالي، على إيجاد مناخ دولي يتيح تنفيذ التقسيم بحجة حماية هذه الأقليات من «بعبع» الأصوليات الإسلامية السنية.

في هذه الأثناء، أدركت غالبية التيارات السورية المنتفضة أهمية التعامل مع سياسة الابتزاز بالفتنة والتقسيم.. باعتمادها خياري الاعتدال وطرح بدائل القواعد العريضة، كما حاولت حتى الآن ضبط الشعارات الغاضبة ومنع انزلاقها نحو الانفعال الديني والخطاب الفئوي المتشنج نتيجة لتفاقم القمع. ولكن يصعب الاطمئنان إلى ما لا نهاية إلى حكمة الشارع وقدرته على المحافظة على صبره و«اعتداله» بينما تواصل السلطة نهج العناد والمكابرة كما في حالة اليمن، والتصعيد الدموي كما في حالة سوريا. وبالتالي، على القوى الناشطة والمتحركة في البلدين استيعاب أهمية تنحية الخطاب ذي اللهجة الطائفية جانبا، وإدراك أهمية احترام التعددية بشتى أشكالها لمنع النظامين من كسب الرهان على الفتنة.

في ليبيا، جرب «الأخ العقيد» وولي عهده سيف الإسلام خلال الأشهر الماضية تخويف المجتمع الدولي بخطر «القاعدة» والأصوليين وغزوهم المحتمل أوروبا من جنوبها، ولفترة غير قصيرة صدق المجتمع الدولي ما سمعه.

وفي مصر وتونس، ارتفعت في الآونة الأخيرة أصوات «إسلامية» لم يُعرف عنها تعقلها وانفتاحها على شركائها في الدين والوطن، مما أربك - مع الأسف - عملية الانتقال المأمول إلى ديمقراطية سليمة يستحقها الشعبان.

وفي اليمن، صور علي عبد الله صالح نفسه لواشنطن وعواصم الاتحاد الأوروبي على أنه حليفهما الركين في الحرب على «القاعدة» وأن «القاعدة» ستكون المستفيد الأول من التفريط به والتخلي عنه. وكانت النتيجة تردد المجتمع الدولي في ممارسة ضغوط فعالة على نظامه.

أما السيناريو الأخطر فيبقى السيناريو السوري. هنا نحن أمام «فسيفساء» فئوية يتوجب على القوى الفاعلة في الانتفاضة السورية أن تتفهم خلفياتها وتعقيداها، وأن تتعامل مع مكوناتها بحكمة ووعي.. مقدرة مخاوف الخائفين ومطامح الطامحين.

إن تعاملا عاقلا ومتسامحا وانفتاحيا من شأنه التعجيل بحسم الانتفاضة لصالح الشعب، أما غير ذلك فسيخدم رهان النظام على توريط الأقليات و«التمترس» خلفها أمام أنظار العالم، وبالتالي، تأجيل انتصار الانتفاضة، بل وتبديده نهائيا.