هل انفرط عقد «القاعدة»؟

TT

عقد كامل من السنين يكتمل هذا الشهر، بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 الشهيرة على نيويورك وواشنطن، عقد ناري حباته هي مسحوق من الخوف والقلق وانفجار الهويات و«صراع الحضارات».

سقطت إمارة طالبان في أفغانستان، قوض نظام صدام حسين وفر، وعثر عليه في حفرة، شعث اللحية، وحوكم، ثم أعدم في عيد الأضحى.

لوحق المئات على ملاك تنظيم القاعدة، وقتل العشرات، وانفجر الإرهاب مدويا في شوارع الرياض وجدة والمدينة والخبر والجوف والقصيم وينبع في السعودية، وشق جلد الدار البيضاء في المغرب فسال دما فوارا، وتدحرجت على جبال اليمن ووديانه كرات النار الإرهابية، وسال الفرات ودجلة بالأحمر القاني، والمفخخات، وانهارت فنادق عمان الأردن، وضربت قطارات لندن ومدريد بمن فيها، ومزقت لحوم السياح في بالي إندونيسيا، وتناثرت الحجارة الشيطانية جراء التفجيرات الرهيبة في إسطنبول وجربة.

انثالت المراجعات تلو المراجعات، وتراشق الإسلاميون بالسجال مع خصومهم الذين حملوهم الحصاد المر لتحول الشبان المسلمين إلى قتلة متنقلين في كل مكان.

وأخيرا قتل «أيقونة» «القاعدة»، بل كل العنف الديني الإسلامي، أسامة بن لادن، بعد أكثر من عقد على مطاردة تاريخية له، قتل في قرية راقية، وعسكرية، بجوار عاصمة باكستان.

كثيرة هي التفاصيل، وكثير هو ما يحكى عن مسببات العنف الديني الرهيب الذي صبغ هذا العقد، الثقافة والسياسة والمجتمع، وفشل الدولة الوطنية الحديثة، والمؤامرات، وأيضا الأوهام والأكاذيب. وكثيرة هي أيضا الثرثرات الجاهلة التي قيلت عن الخطاب الديني.

منا من رمى بالمسؤولية في وجود شبان العنف الديني على عاتق مؤامرات دولية شريرة قوامها أميركا والصهاينة، من أجل تسويغ غزو العالم الإسلامي وأخذ خيراته، وضربه ببعض.

ومنا من قال، بل الأنظمة الحاكمة هي التي تتحمل «وحدها» مسؤولية وجود هذه الظاهرة الدينية المرعبة، بسبب فسادها وتشبثها بالسلطة، والاستيلاء على الأفق السياسي كله، وخنق الحريات الإعلامية، وضرب «المجتمع المدني».

ومنا من قال، بل السبب في وجود هذه النماذج القاتلة والمخيفة، هو أننا، كـ«ثقافة»، مصابون بمرض عضال تجاه مفاهيم التسامح والتصالح مع فكرة المواطنة المساوية بين الجميع، وما زلنا نحمل في دواخلنا بذور دولة «الخلافة»، وإننا لم نهضم بعد فكرة الانتقال إلى العصر المدني الحديث، وهذا هو ما يفسر الفرح «الأولي» بصنيع أسامة بن لادن و«القاعدة» في أميركا وغير أميركا باعتبار أن ذلك مبشر بعودة «الفتية المؤمنة»، وأتذكر هنا العنوان الشهير الذي كتبه أحد نجوم الإنترنت، في بداية هذا العقد، وهو لويس عطية الله، حين حيا منفذي هجمات 11 سبتمبر بالقول: «بسم الله رب التسعة عشر»! وهو يعني الشبان الذين نفذوا الهجمات الإرهابية المذهلة.

ومنا من قال غير ذلك...

هدأت السكرة، ولا أقول ذهبت وأتت الفكرة، ولم تكد الحبة الأولى في هذا العقد، سنة 2011، تهل حتى تبدل المشهد، وتغيرت اللغة، وخلطت الأوراق والأجندة من جديد، وخلق الشرق الأوسط العجيب من جديد.

إنها سنة «الربيع العربي» كما يقال، إذن لتذهب «القاعدة» إلى الجحيم، نحن الآن أبناء «الربيع العربي»، نحن أنصار الديمقراطية والحرية والمساواة، وجنة الإنسان العربي المعاصر، ألا ترون كيف ثار التونسي والمصري والليبي واليمني والسوري، من أجل الحرية والدولة الحديثة؟ أين أسامة بن لادن والظواهري والزرقاوي والعييري والمقرن وغيرهم؟!

هكذا هلل كثير من الكتاب العرب، بل حتى بعض الكتاب الغربيين، ومنهم من قال إن العرب والمسلمين، أو بعضهم للدقة، قد غادروا خانة التعاطف مع خطابات العنف الديني.

حتى أباطرة المخابرات والأمن في الغرب ظهروا «واقعيين» في الحديث عن «القاعدة» وجماعات العنف الديني، فقبل بضعة أيام كشفت البارونة ليزا ماننغهام بولر، المديرة السابقة لجهاز الأمن الداخلي البريطاني (إم آي 5)، أن بريطانيا والولايات المتحدة تدرسان سبل التحاور مع تنظيم القاعدة بهدف التوصل إلى تسوية سلمية في نهاية المطاف. ونسبت «هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) إلى البارونة بولر، التي شغلت منصب مديرة «إم آي 5» من أكتوبر (تشرين الأول) 2002 وحتى تقاعدها في أبريل (نيسان) 2007، قولها إن «اعتداءات 11 سبتمبر 2001 كانت جريمة وليس عملا حربيا، والردود العسكرية والأمنية يمكن أن تمضي بعيدا، لكن يجب التوصل إلى تسوية سياسية في نهاية المطاف».

وها هو، عبد الحكيم بلحاج، أو الشيخ أبي عبد الله الصادق، أحد رموز الحركات «الجهادية» في عالم الجماعات العربية الأصولية، يدخل طرابلس دخول الفاتحين، ويقود ثوار «الحرية» ضد نظام الرجل الأخضر معمر القذافي، وأنا أميل إلى تصديقه في أنه ليس كتنظيم القاعدة، وأنه وإن جمعته الظروف مع الظواهري وبن لادن وأنصارهما في أفغانستان أو بعض الساحات «الجهادية»، لم يكن يميل إلى رؤيتهم الاستراتيجية والفقهية، بكل حال لقد دخل بلحاج سجون المخابرات في أكثر من مكان واستجوبه وعذبه ضباط الـ«سي آي إيه» في محطة تايلاند، وسلم إلى القذافي، فسجن في سجن أبو سليم الرهيب، ولكن حواره مع أحد مثقفي الإسلاميين الكبار في ليبيا، وهو الشيخ علي الصلابي، كان ضمن حيثيات أخرى مثل تأكيده اختلافه مع تفكير «القاعدة» وأشباهه في كتابه المعنون «دراسات تصحيحية» الذي لاقى تقريظا من رموز حركية إسلامية شهيرة خالفت «القاعدة»، مثل الشيخ القرضاوي، إضافة إلى سعي نجل القذافي، سيف الإسلام، إلى فتح صفحة جديدة... كل هذه الأمور ميزت تجربة عبد الحكيم بلحاج، القائد العسكري الحالي الأبرز للثوار في ليبيا. ووصل به الأمر كما في حواره مع «فرانس 24» إلى أن يشكر فرنسا على «موقفها التاريخي» في التدخل العسكري في ليبيا بمشاركة الحلف الأطلسي وبعض الدول العربية.

الإنسان هو استجابة للمتغيرات من حوله، وهو ليس حجرا أصم لا تؤثر به الظروف وعوادي الأيام، فكيف إذا كانت هذه التغيرات بحجم زلزال الثورات العربية الكبرى؟!

نعم من حق بلحاج أن يتغير، كما من حق غيره ممن كان شيوعيا فصار ليبراليا، أو كان سنيا فأصبح شيعيا - بالمعنى السياسي أتحدث - أو غير ذلك من التحولات المثيرة.

القصة ليست في مثال فردي أو حتى في العشرات أو المئات ممن يملكون شجاعة التغير وحرارة الحياة في التحول، فهذا جدل فارغ ومتجن.

لكن يبقى السؤال الأخطر؛ هل صحيح أن الثورات العربية، أو ما يسمى بـ«الربيع العربي»، قد جففت مياه التطرف الديني، الذي هو الأب الشرعي للإرهاب الديني؟

هل فعلا أصبحنا من عشاق الحرية والديمقراطية ودولة المواطن، دون تمييز ديني أو عرقي أو إقليمي؟ هل سنصير دولة مدنية أم دولة دينية؟ هل شفينا حقا من عشق الأصوليات بمجرد سقوط القذافي أو مبارك أو صالح وغيرهم؟

لن أتحدث عن نشاط «القاعدة» أو تنظيمات العنف الديني بشكلها الكلاسيكي، فهو نشاط ما زال قائما، بعد إزهار «الربيع العربي»، بل ربما بسببه! كما تقول الصورة في زنجبار اليمن وأبين عدن، وفي أفغانستان وباكستان، والصحراء الكبرى في شمال أفريقيا.. بل أتحدث عن «ازدهار» الأصوليات السياسية والثقافية، بما يعنيه ذلك من إعاقة لملفات: تمكين المرأة، وتشجيع الفنون، والحريات الشخصية، وحرية البحث العلمي في مجالات التاريخ والطوائف والفقه.. وغير ذلك من ملامح الإنسان الحر والحديث.

هل سنتقدم في هذه المجالات بعد «الربيع العربي» أم سنتأخر، أم سنكون حيث كنا؟

نعم، مذهل إسقاط شخوص الحكام الفاسدين والمستبدين ومن معهم، لكن الأعظم هو تحرير العقل العربي والإسلامي من عيوبه، وهي مهمة أكبر من قدرات الخطباء في الميادين مهما قويت حناجرهم.. أو ربما أكون متشائما.. ربما.

[email protected]