الغرب وإعادة تصدير العنف

TT

السؤال الذي يشغل الجميع في الشرق والغرب الآن ومع اقتراب الذكرى العاشرة لأحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 هو: ماذا سيحدث للإرهاب والإرهابيين بعد الربيع العربي أو الثورات العربية؟ الإجابة معقدة وسهلة في الوقت ذاته.. وأبدأ بالجانب السهل فيها أولا. بداية، العنف في العالم يكاد يكون كمية ثابتة لا تتغير تتنقل من منطقة إلى أخرى، وتصدره دول وتستورده أخرى حسب الظروف المحلية والإقليمية لكل منطقة.. في الماضي القريب وقبل 11 سبتمبر 2001، كانت معظم دول ما بعد الاستعمار والجمهوريات العربية خصوصا مأزومة ولديها أزمة حكم ومواجهة طاحنة مع أعدائها، واهتدت في لحظة إحباط شديد إلى أن تصدر هذا العنف بعيدا عنها، وتحول الكراهية المحلية إلى كراهية عالمية، بمعنى أن المواجهة ليست بين الإسلاميين ونظام حسني مبارك مثلا في التسعينات من القرن الماضي، بل أصبحت بين الإسلاميين وأميركا؛ الكفيل الدولي لنظام مبارك. وصدق الإسلاميون والنظام هذه الرواية وتحركت عجلة العنف لتوصلنا إلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر.. أحداث جعلت أميركا والغرب يضربون كفا بكف، ولا يدرون ما حدث وكيف حدث أو كيف يتعاملون معه. تخبطت الاستراتيجيات والشروح والتفسيرات، وطرق المواجهة.. واهتدى جورج بوش الابن وفريقه إلى مقوله بدائية مفادها أن نأخذ الحرب إلى ديارهم ولا ندعهم يحاربوننا في ديارنا، أي نعيد تصدير العنف إليهم مرة أخرى. وبالفعل نقل جورج بوش الحرب بمعناها المباشر إلى ديار الإسلام؛ إلى أفغانستان أولا، ثم إلى العراق بعدها، ودارت الرحى.

كانت استراتيجية بوش لنقل العنف وإعادة تصديره ثلاثية الأبعاد؛ البعد الأول منها يتمثل في الحرب المباشرة التي رأيناها في العراق وأفغانستان وجوارهما. أما البعد الثاني، فهو فكرة تغيير الأنظمة؛ إما بالقوة، أو بوسائل أخرى، وبدأت فكرة تغيير الأنظمة بالقوة في العراق، وكانت هناك أصوات تطالب بتغيير النظام في مصر وليبيا وسوريا واليمن وغيرها، ولكن لتعقيدات المشهد الإقليمي فضلت إدارة بوش ومن بعده فكرة تغيير النظم بوسائل أخرى. وهنا لا أقول بأن الغرب هو من صنع الثورات العربية التي غيرت الأنظمة في ليبيا ومصر وتونس وها هي قد تغيرها في سوريا واليمن والبقية تأتي تباعا، ولكن فكرة إعادة تصدير العنف كانت جوهرية في تغيير المشهد الاستراتيجي برمته، فرغم أنها فكرة بدائية، فإنها كانت ناجحة إلى حد كبير من وجهة نظر أصحابها.

أدرك الغرب أنه في مواجهة أو حرب غير مباشرة مع دولة المخابرات العربية، لم يعلن أنه يواجهها جميعا، ولكنه مارس هذه المواجهة ضد الجميع، فتمت مقاطعة نظام مبارك تماما في عهد بوش أو في المرحلة الثانية من نظام بوش، وجاءت كوندوليزا رايس وخطبت من منبر الجامعة الأميركية في القاهرة ودعت إلى الديمقراطية وقابلت النشطاء، ونكل نظام مبارك بكل من التقى رايس، ثم جاء أوباما وخطب، ليس من منبر الجامعة الأميركية هذه المرة، ولكن من منبر جامعة القاهرة، ودعا إلى الديمقراطية، وقال إنه على الحكام أن يفكوا قبضتهم الحديدية من على شعوبهم حتى تتفرغ أيديهم لمصافحتنا، ولما حاولوا أن يصافحوا ويفكوا القبضة، انفلت العقال وانفرط العقد، ودخلنا في الثورات وإعادة تصدير العنف واستيراده.

لم يعد السلفيون في مصر أو «الإخوان» يعادون أميركا، فلهم ما يكفيهم من أعداء في الداخل. الجنرال الجهادي عبد الحكيم بلحاج الذي يسيطر على طرابلس لم يعد في مواجهة مع الغرب، بل يطالب الغرب باعتذار عما اقترفه بحقه عندما سلمه الـ«سي آي إيه» إلى مخابرات النظام الليبي وإلى موسى كوسا. «الإخوان» ابتهجوا بمقولة هيلاري كلينتون بأنها ستفتح حوارا مع «الإخوان». الغرب لم يعد عدوا للجماعات الإسلامية بأطيافها المختلفة؛ فالعدو بالنسبة لهذه الجماعات هم الليبراليون في الداخل أو دعاة الدولة المدنية ودولة القانون. أعداؤهم في الداخل أيضا الأقباط المختلفون في العقيدة.. إذن تم تحويل كرة العنف من مسارها المتجه إلى الخارج إلى مدارها الجديد وهي الدورات في الداخل. وهذا ما يحدث في مصر وسوريا وليبيا واليمن والبحرين وغيرها من الدول.

الدول العربية، لا الغربية، هي الساحات الجديدة لحريق وقود العنف. إذن فليسترح الخائفون في الغرب لأن النار لن تأكلهم الآن، النار تأكلنا نحن، ولكن الدور عليهم ربما بعد عشر سنوات. السبب في هذا هو الاستراتيجيات البدائية قصيرة النظر التي ترى في نقل المعركة حلا، أو بديلا لتخفيف أسباب حدة العنف التي تتحرك في الفضاء العالمي في هذه الفترة الحرجة من الكساد الاقتصادي، والمواجهات الحضارية والعرقية، وتفسخ الدول في زمن ما بعد الصناعة أو ما بعد الحداثة.

ليهنأ الغرب بفسحة من قلة العنف لديه وليتفرج علينا، ولكن ما هي إلا سنوات حتى تحرق النار ثيابه، خصوصا أن ثوراتنا في العالم العربي كلها تتجه إلى مسار إعادة إنتاج العنف. نحن الآن في مرحلة استيراد العنف إلى الداخل، ولكن قريبا، وقريبا جدا، سندخل مرة أخرى في بيزنس تصدير العنف. اربطوا الأحزمة.