نار بن لادن وجنة بوش

TT

بعد أيام قليلة سيتذكر العالم على نطاق واسع، خاصة في الشرق الأوسط ودول الغرب، أحداثا وقعت قبل عقد من السنين، غزوة «مانهاتن» كما وصفها الأصوليون، وسيكتب بحبر غزير عن السياسات التي اتخذت بعدها بمناسبة مرور عقد من الزمان. وبالفعل المجلات الجادة الغربية هذا الأسبوع معظمها عنونت مانشتاتها بشيء عن الكارثة.

إنه عقد كامل من الحروب المختلفة، والصراعات القاسية، الصلبة منها باستخدام الآلة العسكرية، والناعمة منها باستخدام فنون القول. وسوف ينظر لهذا العقد المحللون على اختلاف توجهاتهم، على أنه العقد المجنون، عقد صراع الأفكار وصراع الإمكانات العسكرية الضخمة. سيطر على معظم هذا العقد - كل لأسباب مختلفة - شخصيتان، الأولى رئيس أكبر دولة في العالم والشخصية الثانية رئيس أكبر تجمع إرهابي في العالم، جورج بوش وأسامة بن لادن. انتهى العقد بتقاعد بوش في مزرعته في تكساس، وضياع أثر جثة بن لادن في البحر كما قيل، إلا أن العقد كله هو عقد الضياع.

عقد تميز بسرعة انتشار وسائل العولمة، وتميز بالبث التلفزيوني المباشر حول العالم لأربع وعشرين ساعة، وانتهى بما سُمي بالإعلام الجديد، «فيس بوك» و«تويتر» و«يوتيوب»، مرورا طبعا بهذا الساحر الكبير الإنترنت، والتي جعلت التواصل بين الناس يجري بسرعة البرق. عقد تغيرت فيه المفاهيم الاجتماعية والسياسية، وتبدلت العلاقات الدولية، عقد ربما يؤسس إلى علاقات طويلة بين الدول والجماعات لبقية القرن الحادي والعشرين وما بعده.

الأرقام التي خلفها هذا العقد مذهلة، فقد كلفت هذه الحروب الممتدة من العراق إلى أفغانستان، وما بينها كما يقول الخبراء، الخزينة الأميركية ما بين 3.2 تريليون دولار، و4 تريليونات دولار، وقتل فيها 1752 عسكريا أميركيا في أفغانستان، و4474 عسكريا أميركيا في العراق، وكلفت بريطانيا من النفوس 380 عسكريا قتلوا في أفغانستان، و179 عسكريا قتلوا في العراق. ويقدر الضحايا المدنيون في العراق بين 120 ألفا ومليون نسمة، وفي أفغانستان بعشرات الألوف، هذا غير الكلف الاقتصادية والاجتماعية الهائلة.

لقد خاضت الدول الغربية هذه الحروب مدفوعة بالخوف والثقة المطلقة بالنفس إلى حد الغرور، وأيضا الشعور بالذنب. كانت الشعارات هي تأكيد غرب آمن من هؤلاء المتعصبين، وإقامة دول ديمقراطية تؤمن بأن السلطة يوصل إليها من خلال صناديق الانتخاب، وأن تلك الدول تتبنى سياسة اقتصادية أساسها السوق المفتوحة والحرية الاقتصادية. ذلك التحليل غلبت عليه العاطفة والتمنيات أكثر مما أخضع للعقل والمنطق، وفهم حضارة وثقافة الشعوب التي واجهها الغرب فيما سمي بالقضاء على الدول الفاشلة!

في نهاية العقد، لم يعد الغرب أكثر أمنا، ففي استقصاء تم الأسبوع الماضي لصالح مجلة «نيوستيتمنت» البريطانية، وجد أن ثلاثين في المائة من البريطانيين لا يشعرون أنهم اليوم أكثر أمنا مما كانوا عليه في 10 سبتمبر 2001، أي قبل يوم واحد من غزوة مانهاتن! نتائج الحرب السلبية أصبحت تقريبا واضحة للشعوب، وسقطت نظرية تمكين حكومات ديمقراطية، تخضع لقوانين حديثة. سُلم العراق أو كاد إلى العدو الجديد إيران، وبدأت الدول الغربية تنفض أيديها من أفغانستان تحت شعار التفاوض مع طالبان. لم يعد أحد في الغرب اليوم وعلى الأخص الدول التي خاضت كل تلك الحروب يستسيغ كلمة «النصر»، لم يخرج أحد منتصرا من هذا العقد الطويل من الصراع. بل على العكس من ذلك فقد وجدت تلك الدول نفسها تفاوض وتقبل بعض حكومات الدول «الفاشلة» في المنطقة، توخيا للسلامة، وبعدا عن خوض حروب جديدة.

الاقتصاد الغربي تلقى ضربة ضخمة ودخل في نفق طويل من الركود الاقتصادي مع ما يجره ذلك من نتائج اجتماعية واقتصادية، قد تقود إلى غيبوبة اجتماعية داخلية، فالغرب اليوم في حالة من الحرب الاقتصادية مع نفسه.

لقد وقع الغرب - رغم آلته العسكرية والفكرية ونتيجة رد فعله السريع والعام - في حفرة ضخمة ليس لها قاع.

لم يكن أيضا بن لادن وفريقه الذي قرأ واقع العصر من خلال الكتب الصفراء ليحقق أيا من أهدافه، غير أن يغرر بمجموعة من الشباب بسطاء التفكير، ويشحن في أذهانهم مجموعة من الخرافات والأوهام تحركهم كالدمى إلى فعل شنيع في التاريخ الإنساني، قتل النفس وقتل الغير، وأي عاقل يلتفت حوله اليوم ليرى ماذا حقق بن لادن ومجموعاته، لا يجد إلا السراب، فلا فلسطين تقدمت خطوة، ولا مصالح الغرب تقلصت خطوة. لقد كانت قراءة مضللة للتاريخ انتصر لها أنصاف متعلمين منقطعين عن العصر.

لن أستبعد أن يأتي بعض المحللين في الغرب أو الشرق ليقول استخفافا - مرة أخرى بعقولنا - إن «ربيع العرب الهادر اليوم» هو نتيجة مباشرة أو غير مباشرة لأحداث ذلك العقد الصراعي المنصرم. لن أقتنع بهكذا تحليل، لأن الغرب نفسه كما هي الحكومات المعنية قد أخذ على غرة من أمره، وفوجئ بالتطورات، حيث لم يكن أحد ليتصور في ديسمبر الماضي، أن تتدحرج كرة حكومات الاستكراه بهذه السرعة، وبهذا الاتساع.

علينا أن نبحث عن أسباب ربيع العرب في مكان آخر، غير نتاج عقد الصراع الذي ازداد فيه الصراخ، وأيضا علينا أن نتثبت، مرة أخرى، قبل القول إننا بصدد حكومات ديمقراطية وصناديق انتخاب حرة، وسيادة القانون الموضوع من الناس، وانتشار اقتصاد السوق العادل، علينا قبل كل ذلك أن نتحقق من المسيرة، فإن أيا من النتائج لم يتبلور بعد.

ما يقلقني، هو أن ردود الفعل من الدول الغربية والجماهير العربية تجاه ربيع العرب، هي ردود عاطفية وليست عقلانية، مثلها مثل ردود الفعل قبل عقد من الزمان على غزوة مانهاتن، من الطرفين، تصفيق واستبشار، وغضب دون تحديد مسار، كل من منظوره، دون التصبر في معرفة الأسباب التي أدت إليه أو النظر في النتائج الممكنة.

لدى العرب مشكلات تطور سياسي واقتصادي هائلة، عليهم أن يواجهوها، ولدى الغرب مشكلات اقتصادية عميقة عليهم أن يواجهوها. هذه الاجتماعات الفلكلورية التي تقام في هذه العاصمة أو تلك، تجمع بعض العرب وبعض الغرب، لن تأخذنا إلى الطريق الأسلم، الخيار هو إعمال الفكر وتقليب الأمور والتعاون لتحقيق مصالح مشتركة تدرس إخفاقات العقد المنصرم وتبني علاقات جديدة مختلفة.

آخر الكلام:

ستظل الثقافة الغربية بكل مكونها، مختلفة عن الثقافة الشرقية، والقول بأنهما متطابقتان قول غير علمي، نعم هما في بعض الدوائر متقاطعتان، إلا أن التطابق بعيد عنهما، فليحترم كل مجتمع ثقافة الآخر، ولندع إلى التعايش بما يحقق المصالح المشتركة.