من الربيع إلى الشتاء والخريف

TT

يبدو أن الحديث عن «الربيع العربي» وثورات الحرية التي جاءت معه في أقطار عربية مختلفة يتطلب الحديث عن «الشتاء العربي» أو الحقائق الاقتصادية المؤلمة على أرض الواقع؛ فهناك حديث متصاعد عن ضرورة تحضير «خطة مارشال» جديدة للعالم العربي للتعامل مع تبعات ونتائج ما حصل جراء «الربيع العربي». و«خطة مارشال»، كما هو معروف، هي الاقتراح الذي تقدم به وزير الخارجية الأميركي في عام 1948 لإسعاف وإنقاذ أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وتقديم الحوافز المالية الكبرى للنهوض بالاقتصاد بها، كان حجم الدعم المالي وقتها ما يقارب الـ13 بليون دولار وُجهت لتطوير الصناعة والزراعة وخفض العوائق التجارية بين الدول والتنسيق السياسي، ونجحت الخطة نجاحا باهرا، فبعد سنوات فقط في عام 1952 كل الذين وجهت لهم «خطة مارشال» كانت اقتصاداتهم تسجل نموا جيدا بمعدل يفوق بـ35 في المائة معدلات ما قبل الحرب، وكانت الطفرة الأوروبية.

بمعدلات اليوم؛ إذا ما ترجمنا الـ13 بليون دولار بالقيمة الحالية فسيكون المبلغ المطلوب هو 670 بليون دولار للمنطقة العربية المتأثرة، وطبعا لا أحد من دول الـ8 الكبرى الاقتصادية يتحدث عن أرقام كهذه، وإنما هم يتحدثون اليوم عن مبلغ يقارب الـ30 بليون دولار، بالإضافة إلى 10 بلايين دولار تعهدت بها قطر لمصر ومبلغ 4 بلايين دولار تعهدت بها السعودية لمصر أيضا. هناك العديد من الاحتياجات الملحة والضرورية، وهي احتياجات متفاوتة بحسب سوء حال القطاع والبلد المعني. ففي ليبيا مثلا هناك احتياج مهول لإعادة إعمار مدن بأكملها دمرت بسبب القصف العسكري مثل مصراتة والزنتان والزاوية وزليتن، وكذلك توسع في قطاع إصلاح المستشفيات والمصافي والمباني الحكومية، ولكن ما يجعل مهمة ليبيا أسهل نوعا ما هو وجود الأرصدة المحجوزة الخاصة بالدولة في مصارف عالمية مختلفة حول العالم، بالإضافة لمداخيل النفط الليبي المتوقع أن يكون ميعاد إنتاجه وتصديره في عام 2012.

ومصر الاحتياج فيها مختلف، فهو متعلق بدعم السلع الغذائية الأساسية نظرا لارتفاع أسعارها وانخفاض المداخيل العامة نتاج توقف الصناعة والخدمة السياحية بشكل مقلق، مما أدى إلى ضغوط هائلة على احتياطي النقد الأجنبي والسحوبات الكبيرة منه. ومصر «رفضت» الاستجابة لطلبي تمويل من البنك الدولي وصندوق النقد بسبب ضغوط شعبية رافضة ذلك، والتي تأتي نتاج سنوات من العلاقة غير السوية بين النظام السابق في مصر وهاتين المؤسستين الماليتين.

واليمن هو الآخر سيكون له طلبات تنموية عاجلة جدا متعلقة بتطوير البنية التحتية وتحسين منسوب العمل، وكذلك الأمر بالنسبة لتونس التي وصلت نسبة البطالة فيها إلى مراحل مقلقة، ولم تتحسن حتى الآن نسب التشغيل السياحي الذي كان دوما من أهم عناصر الدخل الوطني للاقتصاد فيها.

سوريا، التي يلفظ النظام فيها أنفاسه الأخيرة، ستكون هي الأخرى مرشحة لتلقي الدعم الاقتصادي، وهي بحاجة ماسة لتطوير كافة القطاعات فيها بلا استثناء بعدما حرمها النظام الحالي من حياة طبيعية واقتصاد طبيعي. البطالة تظل الهاجس الأخطر في العالم العربي وهي مركزة بشكل أساسي في قطاع الشباب، وتصل في هذه الفئة إلى نسب 40 في المائة في الأردن ولبنان والمغرب وتونس، وحتى 60 في المائة في سوريا ومصر، وهي ارتفاع كارثي بلا شك، وكذلك ارتفاع نسب أسعار المواد الغذائية بشكل فلكي مما يعني وجود خلل خطير في مفهوم الأمن الغذائي في اقتصادات الدول العربية، بالإضافة إلى أن الإنفاق على البنية التحتية في اقتصاد الدول العربية بالكاد بلغ 5 في المائة من إجمالي الدخل العام، بينما هو في الاقتصادات الناشئة معدله 15 في المائة، وهو يفسر التهالك الموجود في المطارات والطرق والموانئ والمباني العامة والمدارس والمستشفيات. النمو الاقتصادي بالكاد سيصل إلى 3 في المائة في أحسن الظروف، على الرغم من استمرار تخطي أسعار البترول معدل المائة دولار للبرميل، والبترول لا يزال المحرك الأقوى لاقتصاد المنطقة، إلا أن التحدي الاقتصادي يبدو مخيفا وهو إذا لم يُدَر بوعي، فسيحول الربيع إلى شتاء وخريف طويلين جدا.

[email protected]