الذين قفزوا من برجي التجارة في 11/9

TT

في أواخر 1948، غادر سيد قطب ميناء الإسكندرية إلى الولايات المتحدة مبتعثا من وزارة المعارف المصرية، وقد بعث خلال تلك الرحلة بثلاث رسائل نشرتها مجلة «الرسالة» المصرية تحت عنوان «أميركا التي رأيت في ميزان القيم الإنسانية». يقول سيد: «إن الباحث في حياة الشعب الأميركي ليقف في أول الأمر حائرا أمام ظاهرة عجيبة، قد لا يراها في شعب من شعوب الأرض جميعا: شعب يبلغ في عالم العلم والعمل قمة النمو والارتقاء، بينما هو في عالم الشعور والسلوك بدائي، لم يفارق مدارج البشرية الأولى». بعد قرابة 5 عقود، بعث تلاميذ سيد قطب برسالته في السمو الأخلاقي إلى أميركا على هيئة طائرات انتحارية اصطدمت ببرجي التجارة في 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وقد كان لافتا أن خطاب أسامة بن لادن كان شديد الشبه بما كان يقوله قطب عن التدني الأخلاقي لأميركا وضرورة التصدي لها بالقوة والانتصار بالإسلام.

لا شك أن 10 أعوام من «الحرب على الإرهاب» قد كلفت العالم الكثير؛ حيث شُنت حروب، وانهارت حكومات، وعصفت العمليات الإجرامية (الإرهابية) بعواصم كثيرة، وأُزهقت أرواح بريئة لا حصر لها. لقد بدأ العقد الأول من القرن الـ21 بتصورات ورؤى مغلوطة بين أميركا ومجتمعات الشرق الأوسط، وخلال تلك المدة حاول كل طرف أن يثبت وجهة نظره؛ فأميركا أحست بصدمة شديدة من أحداث سبتمبر، وسرعان ما استقر الرأي على أن الشرق الأوسط وسكانه من العرب المسلمين يعانون مشكلات حقيقية أنتجت ذلك التفكير الإرهابي؛ لذلك فإن الحل هو مزيج من تغيير الحكم أو إجباره على الإصلاح والتحرر من الحكم الاستبدادي إلى الديمقراطية من جهة، وإصلاح مناهج التعليم التي تحث على العنف والكراهية ضد الآخر من جهة أخرى. أما الأكثرية في المجتمعات العربية، فلم تكن ترى في أميركا إلا دولة مستكبرة تستخدم قوتها لمناصرة إسرائيل، ولدعم الأنظمة التي تخدمها. بعد رحلة مضنية من الصراعات، نجحت أميركا، نسبيا، في نقل معركتها إلى أرض العدو، لكن الثمن الإنساني والمادي كان كبيرا على الجانبين.

لقد خاضت أميركا حربين، إحداهما في أفغانستان؛ حيث لم تتمكن من بناء دولة، وما زالت جماعة طالبان ناشطة إرهابيا، وقد ابتنت لها فرعا في باكستان. أما الثانية فهي تجربة الديمقراطية في العراق، فقد أبعدت ديكتاتورا بغيضا في شخص صدام حسين، لكن الآليات الديمقراطية لم تنتج إلا اقتتالا طائفيا انتهى إلى توسع نفوذ الحرس الثوري الإيراني - لا الأميركي - في العراق. أما في العالم العربي فبدأ البعض يدرك أن القوة الأميركية ليست سرابا كما توهم، وأن الأميركيين ليسوا بالضرورة أعداء أبديين، ويكفي للدلالة على هذا التغيير أن ترى آثار الانتفاضات الشعبية التي تجتاح العالم العربي؛ حيث باتت المظاهرات تتهدد أنظمة عربية كانت، إلى وقت قريب، جمهوريات بوليسية عصية على القراءة والتحليل. لقد خالفت إدارة أوباما التوقعات، فتخلت عن بعض حلفائها، بل وذهبت إلى الحد الذي باتت تطالب فيه بعض الرؤساء بالرحيل استجابة لمطالب الشارع.

في ليبيا، تصور محطات التلفزة الأميركية عبد الحكيم بلحاج - أمير الجماعة الليبية المقاتلة - وهو يقود الثوار إلى فتح طرابلس، وهو الشخص ذاته الذي كانت الولايات المتحدة قد اعتقلته في ماليزيا قبل أن تسلمه لليبيا، ليخرج من السجن بعد مراجعات قادها سيف الإسلام القذافي. بلحاج خرج بعد سقوط طرابلس على شاشة قناة «فرانس 24» ليشكر الجهود الفرنسية في تسهيل الحملة على طرابلس، وليقول إنه لا يمانع في أن تقيم ليبيا علاقات طيبة مع كل من أوروبا وأميركا. يا ترى هل تغير بلحاج، أم تغيرت أميركا؟ الحقيقة - وهي على كل حال نسبية - بين الاثنين. لقد تغيرت بعض الأولويات والرؤى لدى كل طرف، ولكن ما زالت الأطر الثقافية العامة لكل طرف على حالها.

«الربيع العربي» أثر بشكل نسبي على قدرة آيديولوجيا وخطاب التنظيمات الإرهابية على استقطاب الفئات الشابة، ولكن يجب ألا ننسى أن الأسباب الفكرية والظروف السياسية والاقتصادية التي أدت إلى ظهور تلك التنظيمات الإرهابية لا يزال الكثير منها قائما. لقد كانت صدمة 11 سبتمبر قوية على الجانبين؛ لأنها لمست الجرح النرجسي عند كل منهما؛ فأميركا بقوتها وتقدمها لم تستطع حسم المعركة مع انتحاريين تعاطفت معهم قطاعات واسعة من المجتمعات العربية والإسلامية - لبعض الوقت - لشعورهم بالغضب تجاه أميركا. أما العرب والمسلمون الذين ظلوا عاجزين لأكثر من 200 عام عن فهم «لماذا تقدم الآخرون وتأخروا هم»، فقد وجد البعض منهم أن جواب الحركات الإسلامية الأصولية الديني لم يكن صحيحا، بل كلفهم ذلك فقد الأرواح والممتلكات، والحياة الكريمة. ولعل الدرس الكبير لعقد «الإرهاب» هو أن الكثيرين على الجانبين انتقلوا من حالة الصدمة والإنكار إلى حالة التقبل والتأقلم؛ فالإرهاب سيستمر ولن يزول؛ لأن الخلافات الحضارية والدينية والسياسية لا تزول، لكن المطلوب هو أن يعمل كل طرف على تصحيح أخطائه؛ فأميركا يجب أن تتعلم أن القوة لها حدود ومسؤوليات، والعرب والمسلمون يجب أن يعوا أن التصحيح يبدأ من الداخل، وأن عليهم مراجعة أوضاعهم الدينية والفكرية والسياسية لتجاوز مشكلاتهم.

نشرت مجلة «صنداي تايمز» (4 سبتمبر) تحقيقا مطولا تحت عنوان «في تذكر الذين قفزوا»، قالت فيه: إن الكثيرين في أميركا لا يزالون حتى الآن يرفضون الحديث عن أولئك الذين قفزوا من نوافذ مبنى التجارة الدولي بعد أن حاصرتهم النيران؛ فالموضوع شائك أخلاقيا ودينيا، ومؤذٍ على الصعيد الشخصي، لكن الأدلة أثبتت، حتى الآن، أن العشرات قرروا القفز على أن تأكلهم النيران، وقد قام عدد من الصحافيين بتوثيق تلك الصور وتكبيرها، حتى إن بعض ذوي الضحايا قد تعرفوا على ملابس أزواجهم الواقفين على النوافذ، وهناك صورة لشخصين وقد أمسكا بيدي بعضهما لحظة القفز، لا شك أن قصة أولئك الذين قفزوا محزنة للغاية، وهي أبرز صورة على قسوة الإرهاب، وهناك صور أخرى في العالم العربي والإسلامي وأوروبا لضحايا أبرياء وجدوا أنفسهم بلا خيار أمام عمليات إرهابية. ترى، هل فكر سيد قطب، أو بن لادن، ومئات غيرهما من منظري العنف وكراهية الآخر ومفتي الإرهاب، في أولئك الضحايا الأبرياء الذين قفزوا من النوافذ إلى حتفهم، أو بالآلاف الذين سقطوا حول العالم نتيجة لهذه الحرب؟ لقد برر المتطرفون والأصوليون أفعالهم الشنيعة تحت ذريعة أن الأميركيين ساقطون أخلاقيا، وأن قيمهم مادية دنيوية، ولكن لن تُصحح النظرة في العالم العربي والإسلامي حتى يدرك العرب والمسلمون أن الأميركيين وغيرهم من مواطني العالم لديهم قيم سامية ورفيعة كما لدى المسلمين والعرب، ولديهم نواقص كما لدى غيرهم؛ لأنهم بشر مثلهم. لقد تخلف العرب والمسلمون لأنهم اعتقدوا أنهم أفضل من غيرهم أخلاقيا وروحيا، ولن يتقدموا إلا إذا تفهموا قيم وفكر وأخلاق الآخرين، واستفادوا منهم فكريا وحضاريا وروحيا. إن الضحايا على الجانبين بحاجة إلى لحظة خلاص، ونسيان آلام تلك المرحلة، وإلى أن يتجاوزوا الماضي إلى المستقبل. لقد سُئل صامويل هنتنغتون - مؤلف كتاب «صراع الحضارات» - عن رأيه في أحداث 11 سبتمبر، فأجاب: «من الواضح أن أسامة بن لادن يريد أن يكون هناك صدام للحضارات بين الإسلام والغرب. الأولوية لحكومتنا هي محاولة منعه من أن يتحقق».