ثورة الشك

TT

أول من سن سنة الرصد والإعلام بالـ«يوتيوب» و«تويتر» و«فيس بوك» هم شباب ثورة إيران الخضراء في يونيو (حزيران) 2009، الذين ثاروا حينما استبعدت أصواتهم الانتخابية زورا لأجل أن يظل محمود أحمدي نجاد ولاية رئاسية ثانية. هؤلاء الشجعان الذي تجرأوا على الثورة ضد أكثر الأنظمة وحشية وسلطوية في العالم، سطروا مشاهد نموذجية ظلت في مخيلة الشباب العربي حتى اختمرت.

اليوم خرج المرشد الأعلى علي خامنئي متوجسا، يناشد الإيرانيين أن يحفظوا وحدة الصف الشعبية خلال فترة الانتخابات المقبلة ويذكرهم بقيم المواطنة، وبأن عليهم أن يقدموا وحدة الوطن على أي مظالم. هذا حديث نفس لازم المرشد منذ بداية الربيع العربي، لم يعد يطيق كتمانه فأطلقه قبل أوانه بستة أشهر ليهيئ جوا من الحذر والتحوط قبل أن ينقض عليه كابوس الانتخابات البرلمانية في مارس (آذار) من العام المقبل. هو يعلم أن الليلة لا تشبه البارحة، وأن الشباب الإيراني لم ينهزم في 2009 بل تأجل انتصاره، وأن قوة التغيير التي أصابت المجتمعات بعد أن انصهرت بحرارة القمع والقهر والتضييق على الحريات والأرزاق صنعت ماردا أقوى من أي آيديولوجيا.

شباب اليوم في إيران لا يشبهون شباب الثمانينات، عولمة عصر الاتصالات أرخت الحبل الشديد للقوميات، وأذابت المسافات، وألفت بين الاختلافات، فضاقت صدور الناس بوحدة الفكرة ووحدة الرأي ووحدة العيش.

المتابع للمظاهرات العظيمة التي خرجت في شوارع طهران في يونيو 2009 ترفع شعارات تنادي بالحريات وتندد بنتائج الانتخابات، لا شك لاحظ كيف بدت ملامح الثقافة الغربية على هيئة الشباب في اللباس وقصات الشعر وحلق اللحية ومفردات الشعارات المكتوبة والتنظيم في الحركة، وربما لو لم تكن زاوية شاشة التلفزيون تحمل اسم طهران لم أكن لأصدق أنها البلد الذي يقف على رأسه محمود أحمدي نجاد وخامنئي. في «تويتر»، كتب أحد المشاركين في المظاهرات أنهم يستخدمون اللغة الإنجليزية بينهم للتنسيق وتنظيم الصفوف، لأن معظم أفرد ميليشيا الباسيج لا يجيدون اللغة الإنجليزية، خاصة من هم في منتصف العمر، بل ومن يصدق أن الأغنية التي مثلت ثورة الشباب الإيراني، وأصبحت مسموعة في شوارع المدن الإيرانية، وتنطلق كنغمة اتصال من أجهزة هواتفهم الجوالة هي أغنية للمطرب الأميركي الشهير، مايكل جاكسون، واسمها: «إنهم حقا لا يكترثون بنا»، وكان قد أنتج لها فيديو كليب مذهل عرض فيه صور من طغيان الحكام وجرائمهم ضد الإنسانية، وبدورهم، أنتج شباب الثورة الخضراء الإيرانيون فيلما قصيرا، مستعرضين صور القمع التي واجهوها في مظاهراتهم على خلفية موسيقية من الأغنية وأطلقوها على «يوتيوب».

هؤلاء الشباب هم القلق الحقيقي الذي يواجه السلطة الحاكمة في طهران، ليست أميركا ولا طبعا إسرائيل، هم الخطر المحدق بالنظام الإيراني إن لم يكن اليوم فغدا، لأنهم شبّوا بلا معتقدات قومية متعصبة، ولا قناعة بخزعبلات رجال الدين وخرافاتهم، ولا يحملون الحلم نفسه في السيطرة والتمدد، ولم يرثوا عن آبائهم تقديس الحاكم والنظر إليه على أنه ممثل الرب في الأرض. انفتاحهم على الثقافات الأخرى، خاصة الغربية منها، من خلال وسائل الاتصال العصرية، جعلهم أكثر قدرة على إبصار ذواتهم وتقييم أنفسهم، وأكثر مرونة في تقبلهم للآخر المختلف وسط هذا العالم المتغير والسريع.

خامنئي متشكك، يخشى أن الإيرانيين هم بادئة الثورات وهم خاتمتها، وأن الدائرة ستغلق من عنده من طهران كما بدأوها أول مرة، حتى إنه أطلق قبل أيام سراح 100 معتقل اتهموا بإشاعة الفتنة والتحريض على أمن البلاد، على خلفية احتجاجات انتخابات 2009، يريد أن يشتري رضا الغاضبين بإظهار التعاطف ولين الجانب. كما استبق الأحداث، وقرر أن أي فوضى في الانتخابات المقبلة تعني تدخلا أجنبيا ومؤامرة خارجية غربية، على الرغم من أن إيران التي أشاعت الإرهاب في العراق وأفغانستان وباكستان، وقسمت لبنان وحرضت في البحرين واليمن وهددت الخليج والعالم بمشروعها النووي، كل هذه الآثام العظام لم تجلب عليها غضب العالم كما تستحق، ولا حتى ضربة عسكرية تأديبية من بوش الابن، بل إنها تزداد طغيانا وتجبرا، ويزداد العالم صبرا عليها.

في كل مرة يرتفع فيها صوت خامنئي في خطبة جمعة أو عيد لا نسمع إلا لهجة الاستعلاء والاستكبار، هذه المرة سمعنا مناشدة واحتواء، لأنه يعلم جيدا أن الشباب الإيراني الذي يرتدي الجينز ويأكل الماكدونالدز ويحلم بالحياة في أميركا، يتابع باهتمام ما يحصل في دير الزور وحماه وحمص، وأنه الأكثر خطرا على الطغمة الحاكمة في إيران من طائرات الشبح الأميركية وصواريخها العابرة للقارات.

خامنئي الذي يستعدي الأميركان البعيدين عنه، يخشى اليوم من إيرانيين يحاربونه من وسط طهران بأغاني جاكسون.

* كاتبة وأكاديمية سعودية

- جامعة الملك سعود

a.alhazzani@asharqalawsat.