قنابل السودان الموقوتة تنفجر

TT

يبدو أن قدر السودان في ظل نظام البشير ألا ينعم بالسلام أبدا، فقبل أن يجف مداد التوقيع على انفصال الجنوب، الذي برر له النظام باعتباره الثمن الذي كان عليه دفعه من أجل إنهاء الحرب وتحقيق السلام، انفجرت حروب جديدة، وعاد السودان إلى مربع الاقتتال. لم يكن توقع هذه الحروب يحتاج إلى عبقرية في التحليل، بل كان الأمر واضحا وضوح الشمس، وحذر منه الكثير من العقلاء، الذين رأوا السياسة العرجاء التي اتبعتها الحكومة في معالجة ملف السلام، والثقوب الكثيرة في ما عرف باتفاقية السلام الشامل.

السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هو: ألم تكن الحكومة ومفاوضوها ومستشاروها الكثيرون يدركون أن هناك قضايا كثيرة تركت معلقة ولم تحل على مدى 6 سنوات منذ توقيع اتفاقية السلام عام 2005 وحتى موعد استفتاء تقرير المصير في الجنوب مطلع العام الحالي، وأن هذه القضايا ستكون قنابل موقوتة ستنفجر تباعا في ظل التوتر بين الخرطوم وجوبا، والمشاكل في ولايات حدودية؟

فإذا كان النظام في الخرطوم لا يعلم، فتلك مصيبة كبرى؛ لأن المفاوضات استغرقت سنوات عدة، وشاركت فيها الحكومة على أعلى المستويات، ومثلها عدد من كبار قيادييها ومسؤوليها ومنظريها، وأشرف عليها نائب الرئيس علي عثمان، ووقع عليها الرئيس البشير. كيف يستقيم عقلا أن كل هؤلاء الذين شاركوا في المفاوضات الطويلة والاجتماعات الكثيرة التي عُقدت لبحث ملف السلام، لم يتنبهوا إلى خطورة ترك ملفات حساسة عالقة، وعدم حلها قبل الاستفتاء؟ أما إذا كانوا مدركين لذلك كله ومضوا في الطريق الذي كان واضحا أنه سيؤدي إلى انفصال الجنوب، فالمصيبة أعظم، لأن هذا سيجدد شكوك الكثيرين حول دوافع بعض الأطراف في النظام، خصوصا أن بينهم من كان يروج ويدعو علنا لانفصال الجنوب، باعتبار أن ذلك سيفتح الطريق أمام مشروعهم القديم لإعلان جمهورية إسلامية. هذه الشكوك عززتها أيضا تصريحات البشير عن عزم نظام الإنقاذ على إعلان الجمهورية الثانية وتطبيق الشريعة، وهي تصريحات اعتبرت محاولة للهروب من مسؤولية تبعات الانفصال والتستر وراء شعارات استخدمها النظام في السابق لأهداف سياسية أو تكتيكية، ولم يطبقها بجدية على مدى 22 عاما من إمساكه بالسلطة، لكن حتى إذا كان نظام الإنقاذ، المولود من رحم وعقل الجبهة القومية الإسلامية، جادا فيما يقوله بعض المحسوبين عليه، فهل يمكن قبول تقسيم الوطن من أجل تنفيذ برنامج حزبي، علما بأن أهل السودان المتدينين بطبعهم لم يعطوا أبدا الجبهة الإسلامية بكل مسمياتها المختلفة أي أغلبية برلمانية في كل فترات الديمقراطية التي عرفها السودان، وهو الأمر الذي جعل تلاميذ الترابي ينقلبون على الديمقراطية قبل أن ينقلبوا عليه أيضا في صراعهم على السلطة؟

لقد حاولت حكومة البشير الرد على منتقديها بالقول إنها حققت السلام، من دون أن تجيب عن السؤال: أي سلام؟ هل هو السلام الذي قاد إلى تقسيم السودان وانفصال الجنوب، أم هو السلام الذي يقود اليوم إلى حروب في جنوب كردفان والنيل الأزرق، وفي أبيي، بعد حرب دارفور؟

إن الواقع الماثل أمام الناس يؤشر إلى أن الحكومة فشلت في تحقيق السلام، وليس لديها ما تقدمه الآن أمام السودانيين لتبرير فاتورة الانفصال والتفريط في وحدة الوطن. وربما لهذا السبب لجأت الحكومة من جديد إلى سياستها القديمة في الهروب إلى الحرب لكي تغطي فشلها في السلام، ولكي تكون مشجبا تعلق عليه أزمات مقبلة في الطريق، خصوصا على الصعيد الاقتصادي؛ حيث بدأت آثار الانفصال وفقدان جزء كبير من عائدات النفط تظهر؛ فأسعار المواد الاستهلاكية الضرورية بدأت ترتفع، لاسيما مع الضرائب والإجراءات الجديدة التي فرضتها الحكومة، ورفع الدعم جزئيا عن بعض السلع مثل السكر والمواد البترولية، ووقف استيراد بعض السلع، وخفض الإنفاق العام لتقليص ميزانية الدولة. وهناك انخفاض ملموس في عائدات البلاد من الصادرات التي كان النفط يشكل عمادها بعد أن أهملت الحكومة، لسنوات، القطاع الزراعي، والتهم الفساد قسما من نصيبها من عائدات النفط التي بددت ولم يبق منها ما يمكن البلاد من استيعاب صدمة الانفصال.

إن السودان يواجه اليوم 3 حروب تمتد من دارفور وجنوب كردفان إلى ولاية النيل الأزرق، كلها مرشحة للمزيد من التصعيد، بل إن المسؤولين في الخرطوم باتوا يتحدثون عن احتمال تجدد الحرب بين دولتي الشمال والجنوب، وهي حرب إن وقعت ستكون أقسى من كل جولات الحرب السابقة، وقد تتسع فتُجر إليها أطراف إقليمية بعد أن أصبح الجنوب دولة مستقلة. وهناك مخاوف دولية بالفعل من احتمال تجدد هذه الحرب، خصوصا مع تزايد المؤشرات على أن الجنوب، بعد اتهامه للخرطوم بدعم ميليشيات لزعزعة الوضع في الدولة الجديدة، وبعد اندلاع الحرب في جنوب كردفان، بدأ يقوم بتحركاته الخاصة أيضا في الحروب بالوكالة المندلعة بين الجانبين. وكان لافتا أن واشنطن، التي انتقدت الخرطوم مرارا بسبب الاقتتال في جنوب كردفان، أعربت عن قلقها مؤخرا من التقارير عن دعم جوبا للحركة الشعبية في جنوب كردفان، وهو دعم كان متوقعا بالنظر إلى أن الكثير من العناصر الشمالية التي قاتلت مع الجيش الشعبي في الجنوب كانت من جنوب كردفان وجبال النوبة والنيل الأزرق.

هناك في الخرطوم اليوم من ينادي بالحرب والحسم العسكري للمشاكل، سواء في دارفور أو في جنوب كردفان والنيل الأزرق، لكن هؤلاء لا يسألون أنفسهم عما جناه السودان من سياسة الحروب التي برع فيها نظام البشير بقدر فشله في سياسة الحوار. فحرب الجنوب، التي أكلت الأخضر واليابس، ومات وشرد فيها الملايين، انتهت باتفاقية سلام قادت إلى الانفصال. والحرب المستمرة في دارفور حصدت، هي الأخرى، مئات الآلاف من القتلى وشردت نحو المليونين، ولا تزال مستمرة ومرشحة للمزيد من التصعيد. ألم يتعلم النظام أنه قد يصعد ويحارب، لكنه يذهب في النهاية إلى طاولة الحوار؟

هناك من يرى أن النظام في الخرطوم لا يجيد لغة الحوار، ولا يعرف سوى لغة التصعيد والحرب وترويع الخصوم من أجل التشبث بالسلطة، لكن هناك أيضا من يرى أن بعض الأطراف في النظام تراهن على الحرب لصرف أنظار الناس عن الأزمات المقبلة ولإشغالهم عن الربيع العربي. وفي الحالتين فإن الأوضاع في السودان مرشحة لأوقات صعبة وأحداث ساخنة، ربما تضعه في قلب الأحداث.. والثورات.