كشف حساب 11 سبتمبر

TT

بعد مرور عقد من الزمان على أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) يمكن القول: إن السنوات القليلة المنصرمة من عهد الرئيس أوباما لم تكن لتأتي بالأفضل على مستوى نفوذ وسطوة الولايات المتحدة في الخارج حتى مع تراجع عمليات «القاعدة» وانهيار بنائها التنظيمي، فالآثار المترتبة على مرحلة الحرب على الإرهاب والتدخل الأميركي في المنطقة ما زالت تلقي بظلالها، يكفي أن نتذكر أن الولايات المتحدة قد منيت بأزمتين اقتصاديتين حادتين جدا، إضافة إلى أفول نظم عربية كانت تصنف كحليفة لأميركا وأخرى كانت تقف على الضفة الأخرى، تلك الأنظمة الموالية والمعادية لم تتغير معادلاتها السياسية بتدخل مباشر من الولايات المتحدة، وهو ما يدل على تراجع نفوذها السياسي، والمرجح أن يتزايد هذا الانكماش في الدور الأميركي في المنطقة في حال استقرار تلك الدول واستطاعتها أن تعيد بناء نظامها السياسي وفقا لدوافع ومحركات داخلية.

الأكيد أن الإدارة الأميركية الجديدة لم تستطع الخروج بنجاح من الإرث الفاشل للإدارة الأميركية السابقة سيئة الذكر، والتي ارتكبت كوارث كثيرة، حيث فشلت في التعامل مع الملفات الحساسة التي تمس العالمين العربي والإسلامي، من خلال ارتجالها غير المدروس في مسألة الحرب على الإرهاب، بدءا بملف أفغانستان، ومرورا بالعراق فالصومال، وهو الأمر الذي جيش الشارع العربي والإسلامي ضد سياساتها الخارجية، وخلق خطابا مضادا عبر الأدوات الخطابية المؤثرة نفسها، والاتكاء على مفعول الكلمات الساحرة. الأزمة في الممارسة السياسية الأميركية ذات جذر ثقافي بالدرجة الأولى، وليست نتيجة رد فعل تجاه كارثة الحادي عشر من سبتمبر، فقد خفت صوت وحماسة التعدد الثقافي الذي بلغ ذروته في 1994 طبقا لمايكل توماسكي، المفكر الليبرالي الذي عزا أفول الحركة التقدمية إلى سياسات التعدد الثقافي، ما أدى إلى عجز الديمقراطيين عن مخاطبة الأميركيين جميعا في ظل الانقسامات والتشظي حول مفهوم الوطنية الأميركية، ليجد السياسيون أنفسهم في نهاية المطاف مدفوعين إلى تسويق الديمقراطية وحقوق الإنسان بما يشبه الاستنبات في أرض غير مهيأة ثقافيا لذلك.

من المهم في سياق كشف الحساب لمرحلة الحادي عشر من سبتمبر القول إن ثمة خطابات كانت تحاول التوازن بين الاندفاع الأميركي في ملف الحرب على الإرهاب حيث وقفت منظمات حقوقية أميركية ودولية مواقف مشرفة في التحذير من خطورة التعامل مع الإرهاب خارج أطر الشرعية الدولية والحقوق العامة، هناك الكثير من البيانات التي صدرت من «هيومن رايتس» ضد سياسة بوش في حملته ضد الإرهاب، التي اعتمدت على استراتيجية التعذيب وإساءة المعاملة التي لا يمكن تبريرها بالتصرفات الفردية. بإزاء نقد هذه الانتهاكات الحقوقية ركزت المنظمة على معضلة حقوق الإنسان في العالم العربي على مستوى العلاقات الدولية والثقل الدولي، وكان من اللافت جدا آنذاك الحديث عن الآثار الخطيرة الناجمة عن معالجة ملف الإرهاب من زاوية أمنية فقط، من دون إعطاء الأولوية للجوانب الفكرية والثقافية، وهو الأمر الذي ظل منذ رفع شعار الحرب على الإرهاب مقتصرا على النخب الثقافية التي لم يتم الإصغاء إلى صوتها كثيرا، بل وقعت بين فكي كماشة. فهي من وجهة نظر الإرهابيين والمتعاطفين معهم طابور خامس يكتفي بنقد معضلة التطرف والإرهاب المسلح من ناحية الحجج الدينية لهذا الخطاب. هذا من جهة الإرهابيين والمتعاطفين معهم، وهي من وجهة نظر الذهنية العسكرية في الإدارة الأميركية لا تنظر إلى قضية الإرهاب بحجمها الحقيقي.

صحيح أن الأمر ليس على ذلك القدر من التشاؤم، فأمام أميركا فرصة تاريخية لأن تلعب دور الوسيط وتحول استراتيجيتها في العلاقات الدولية من خانة الهيمنة والنفوذ إلى المشاركة في بناء عالم مختلف مبني على الاحترام المتبادل بين الدول، وهنا يمكن الحديث عن شرعية جديدة للعلاقات بين الولايات المتحدة والدول تولد على أنقاض مرور عقد من أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فالنظام العالمي الجديد ينتظر الدور الأميركي كلاعب استراتيجي وليس كمخطط لطبيعة تلك العلاقات التي يمكن أن لا تسير بانسيابية متى ما أحست الأطراف الأخرى بأنها أسيرة أجندة ما تأتي من الشمال، لا سيما إذا أدركنا أن أكثر الكيانات السياسية التي تسير إليها البلدان العربية الخارجة من رحم الثورات هي كيانات مبنية على جذر «الهوية» تقودها وتؤثر فيها جماعات محافظة سواء كانت قادمة من رحم جماعات الإسلام السياسي أو أخرى مدنية تخشى من أن تصنف كعميلة للولايات المتحدة، فمن الطبيعي أن تتصرف وفق تلك الحساسية المفرطة التي لا يجدي معها مجرد تطمينات وحوارات ومؤتمرات شراكة هنا وهناك.

تراجعت «القاعدة» خطوات إلى الوراء، هذا مما لا شك فيه، لأسباب تتصل بطبيعة التنظيم وحجم أهدافه واستراتيجيات التجنيد فيه، لكن السبب الأهم أنه فقد مشروعيته في الجماهير العريضة، وتم استبداله كرأس الحربة في المعركة مع الغرب، الذي ما زال مشيطنا في القطاع العريض من الجماهير العربية والإسلامية، بشعارات أخرى، التنظيم في نظر هؤلاء الجماهير انكفأ على ذاته وأصبح ينفجر في الداخل في ذات الجسد الذي يتقاسم الناس فيه الحياة بعد أن أصبحت الأهداف الغربية أو تكرار حدث الحادي عشر من سبتمبر صعبا ومعقدا للغاية، كما أنه في خطابه الإعلامي فإن تجاهل هذه الجماهير العريضة لم يحضر في إشكاليتها ولا أزماتها وإنما كان له أجندته الخاصة.

تراجع «القاعدة» أو بالأحرى وجودها على أرض الواقع كعمليات مؤثرة يمكن التدليل عليه بمؤشرات كثيرة لعل من أهمها حجم العمليات الذي انتقل من استهداف منشآت وأهداف كبرى إلى البحث عن أهداف أخرى يمكن تحقيقها عبر عمليات انتحارية فردية لا تكلف أكثر من شخص لديه الاستعداد ومتفجرات مصنعة بشكل يدوي أقرب للبدائي، إضافة إلى تحول استراتيجية التنظيم في التمويل من العلاقات الخاصة المتمثلة في بعض التجار المتعاطفين مع التنظيم أو الذين يمكن خداعهم عبر طلب الأموال لقضايا ومصارف شرعية عامة إلى استراتيجية جديدة وهي مخاطبة الجمهور العريض من المسلمين عبر خطاب تعبوي تحريضي.

لم ينته حضور «القاعدة» الشعبي فقط، بل انحسر في المقابل التعاطف العام مع حدث الحادي عشر من سبتمبر كأزمة كبرى وحدث درامي أقرب للخيال، فالواقعية فرضت نفسها في النهاية بسبب تطرف خطاب «القاعدة» وسوء معالجة الإدارة الأميركية لملف الحرب على الإرهاب حيث كانت تقتات على كارثية 11 سبتمبر بشكل يجعلها تتجاوز الأطر الحقوقية والقانونية التي قامت عليها ديمقراطيتها، وهذا ما انعكس سلبا حتى على المؤيدين لها في حربها على الإرهاب، وانتهاكها لسيادة دول كثيرة كباكستان واليمن وأفغانستان والصومال لضرب أهداف متوهمة هو أحد المؤشرات الخطيرة على ذلك التوظيف السلبي لملف مكافحة الإرهاب، وهو الأمر الذي قوبل بكثير من الاستهجان الشعبي الذي بدأ يتعملق ويرى عدم وجود فروقات كبيرة بين الإرهاب ومن يحاربه! هذا إذا ما استثنينا في المقابل شرائح غير قليلة داخل المجتمعات العربية والإسلامية لا تنظر إلى المسألة برمتها بشكل جدي في ظل جمود الملفات السياسية العالقة التي تزداد تعقيدا وتشابكا يوما بعد يوم. إن المستفيد الأول والأخير من هذا التصعيد العسكري غير المتزن هو الإرهاب المحارب، فهو يزداد قوة ومنعة في ظل اكتساب المزيد من الأنصار الذين أصبح استقطابهم سهلا ما دامت المواجهة بالنسبة إليهم تحولت إلى «فسطاطين» لا ثالث لهما، فالأخطاء في حرب كهذه يتم ترجمتها عادة إلى مواقف حدية منفعلة تنتظر لحظة الغليان التي يغيب معها أي حديث عن المنطق والعقل. المخرج من مثل هذه الأزمة هو اجتراح «طريق ثالث» خارج عسكرة قضية الإرهاب التي هي قضية آيديولوجية ثقافية بالدرجة الأولى.

في الجانب المالي تأثرت «القاعدة» كثيرا بالحرب الاقتصادية عليها حيث أصابت استراتيجيتها المالية تحولات كثيرة من أبرزها أنها انتقلت من طريقة الشبكات التمويلية إلى طلب التبرع برسائل عامة محفوفة بمخاطر أمنية، وهو ما يؤكد الفشل في إيجاد مصادر تمويل غير تقليدية كمشاريع مستقلة ضخمة ذات عوائد مستمرة، والاعتماد على التبرعات الفردية أو التحويلات الصغيرة نابع من اليقظة التي يعيشها العالم وتحول الإرهاب إلى ظاهرة عالمية، حيث أصبح نقل الأموال أكثر خطورة وأشد صعوبة، لا سيما أن هناك قوائم متجددة بالكيانات والأفراد التي تقدم مساعدة مالية للتنظيمات الإرهابية، للتذكير فقط: في السنة التي تلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر تم في الولايات المتحدة تجميد ما يزيد عن 150 مليون دولار مرتبطة بأعمال مشبوهة ذات صلة بالإرهاب.

منذ اللحظات الأولى للحدث وحتى قبل الإعلان عن الحملة العسكرية ضد الإرهاب الضبابي الذي لم يسعفه الحظ في أن يتفق على تعريفه وتحديد هويته، وصافرة البدء، أعلن عن حرب الثنائيات، فإما أن يكون العالم مع أميركا في حملتها أو يقف في صف الإرهاب، وفي الضفة الأخرى ليس ثمة إلا فسطاطان، إما أن تكون مع ثقافة العنف وتبرير قتل الأبرياء أو أنك وقعت في شرك العمالة والتبعية والنفاق، وعلى المستوى الفكري فالحدث لا يعدو أن يكون نتيجة حتمية لمقولة صدام الحضارات ونهاية التاريخ التي لا يسعك فيها إلا أن تكون بين سندان فقدان الهوية والانتماء كما في التعبير الفكري النخبوي ومطرقة الاتصاف بهشاشة الإيمان بالنبوءات ونصوص الوعد المحتوم كما في التعبير الديني الغيبي الذي بدأ يوظف على نحو خطير حيث يستمد من الظن والتخرص ومحض الدعوى جذوته وأواره. ويقابل هذين نظرة غربية إلى الإسلام من خلال أطروحات استشراقية هزيلة كانت نتيجة رؤى متحيزة ضد قيم الإسلام وأصوله لكنها ما زالت مهيمنة على النسق الغربي في تعامله مع تلك القيم والمبادئ. إن هذه الحرب المتمثلة في استدعاء الثنائيات الحدية التي تحاول الزج بالعالم وعقلائه في ردود فعل تنتج خسائر مدمرة على المستويات السياسية الاجتماعية دون أن تساهم في الخروج بالأزمة من النفق المظلم.

تغيرت الأوضاع كثيرا خلال أقل من سنة في عالمنا العربي والإسلامي، وهو الأمر الذي يضع مسؤولية كبيرة أمام الولايات المتحدة في طريقة إدارتها للعلاقات الدولية واستراتيجية الحوار مع هذه المتغيرات الجديدة، ليس فقط على شكل برغماتي يحاول التواصل مع الخطابات الغالبة أو المهيمنة بقدر حاجتها الماسة إلى إعادة كشف حساباتها في المنطقة على أساس تلك المتغيرات وما أحدثته من مستجدات على مستوى الخطاب الثقافي والاجتماعي وليس السياسي فقط.