حديث في بناء ليبيا الجديدة

TT

القول في بناء ليبيا الجديدة أو في بناء الدولة الجديدة في ليبيا، بعد الليل الطويل الذي عاشته، شأن ليبي محض لا شك في ذلك. غير أن داعي العروبة والإسلام، فضلا عن الاشتراك في الانتماء إلى المغرب الكبير، يحملان على الحديث. لست أريد لهذا الحديث أن يعد في باب التطاول الذي يحق لإخوتنا في ليبيا أن يستشنعوه، بل إنني أراه شعورا بما أقدر أنه واجب. ربما كان أول ما يستوجبه الحديث هو التنبيه إلى جملة أوهام وأكاذيب عملت محنة العقود الأربعة المنصرمة على غرسها في النفوس فسخرت لذلك جنودا من الذين يحلو لهم الصيد في الماء العكر والتفنن في نسج الأساطير وصناعة الأوهام. ذلك أن البدء الصحيح في عملية البناء يكون بالتدليل على الأوهام مقدمة للتخلص منها بتجفيف منابعها. قد يستدعي عمل التخلص من الأوهام زمنا غير يسير وهو، فوق ذلك، يكون عرضة لانتكاسات إذ العمل في هذا الاتجاه حرب متصلة ولكن التحرير لا يكون دون ثمن، وهو في الحال التي نتحدث عنها تحرير أدهى وأمر من تحرير البلاد، لا بل إن التحرير الكامل للبلاد لا يتأتى دون تحرير للنفوس. بيد أن التاريخ، تاريخ الشعوب والحريات، يعلمنا أن الوقوف على السلب سبيل صحيح لمجاوزته نحو الإيجاب. لنقل، في عبارة أخرى، إن البداية الصادقة على درب بناء ليبيا الجديدة، ليبيا الحرية والمواطن الليبي الحر، تكون بإزالة الأشواك وإقصاء العراقيل والعوائق التي تقوم في وجه المسيرة الصادقة.

يبدو لي أن أشد الأوهام التي أريد لها أن تتمكن من النفوس، طيلة العقود الأربعة البئيسة الماضية، هو ذاك الذي يتعلق بالقبيلة والقبلية في ليبيا. لا شيء أشد فتكا بالوطن وبالأمة، في أزمنتنا المعاصرة من إحالة البلد الواحد والشعب الواحد إلى مجموعة من القبائل المتناحرة. ثم لا شيء أشد ضررا بالدولة وبالشعب معا من إقصاء رابطة المواطنة والإعلاء من شأن الرابطة القبلية. تلك حقائق أدركها الاستعمار فقدرها حق قدرها وهي ورقة لوح بها الاستعمار الفرنسي في الجزائر بقوة وحاول تجريبها في المغرب بإذكاء الفرقة بين العرب والأمازيغ من جهة أولى وبين الأمازيغ والإسلام من جهة أخرى. أما في العديد من المناطق التي تكون اليوم كثيرا من الدول الأفريقية العظيمة فقد ذهب الاستعمار في ذلك مذاهب كثيرة وسخر إمكانات هائلة وافتعل خصومات ونزاعات عميقة بين القبائل. وما أحسب اليوم أننا في حاجة إلى التذكير بسياسات المستعمر في بلدان أفريقيا وفي كثير من البلاد العربية في آسيا، غير أننا في حاجة أكيدة إلى استحضار الدرس واستخلاص العبرة ونحن نتحدث عن الوطن الليبي الذي أريد له، تسهيلا للتحكم في أهله وفي ثرواته، أن يكون لفيفا من القبائل المتصارعة التي لا سبيل إلى اجتماعها حول أهداف واحدة مشتركة وصهره في وطن واحد لحمته المواطنة.

نقول إن دخول طرابلس، من قبل الثوار، والكيفية التي تم بها تكذيب لكل المزاعم التي روج لها الوهم أو بالأحرى صناعة الوهم سعيا لتأكيد السيطرة على العقول والنفوس. مواطنون ليبيون حركهم الشعور بالانتماء للوطن الواحد السليب مع انتسابهم إلى قبائل قدمت من مناطق شتى، أو بالأحرى، مع انتسابهم إلى تشكيلات قبلية متنوعة الأطياف. بل إن ما لا نزال نشهده حتى الآن من مرابطة قوى الثوار على مشارف بني وليد. من جهة أولى هنالك ثوار، مواطنون ليبيون أحرار، قدموا من طرابلس ومصراتة وزليتن وبنغازي وجبل نفوسة ومن مناطق مختلفة من الغرب ومن الشرق وبالتالي فهناك نسيج من قبائل أولاد سليمان وورفلة وترهونة، بل ومن القذاذفة والمقارحة وبالتالي من أبناء مناطق بني وليد المحاصرة ذاتها. وهنالك مفاوضات بين الشيخ وممثلي العشائر وهم مجموعات ترتبط فيما بينها بروابط المصاهرة فهم أخوال وأبناء عمومة وهنالك من الثوار إرادة صادقة لتجنيب بني وليد إراقة الدماء. وهنالك، في مقابل هذه الأمور كلها، أكاذيب قصيرة الحبل. لقد تبين، على سبيل المثال، أن الكثير من الشيوخ ورؤساء العشائر لا علم لهم بالواقع الجديد في طرابلس وفي غيرها من الجهات الكثيرة المحررة. ذلك أنهم ممنوعون من مشاهدة القنوات التلفزية العربية والدولية وكل ما يطالعهم من صور مشاهد من باب العزيزية ترجع إلى سنوات سابقة. إنهم، في كلمة واحدة يعيشون، مرغمين، خارج العالم. ولكن كل المؤشرات تدل على أن تقدما حثيثا تعرفه المفاوضات بين الثوار (وفيهم كثيرون من شباب بني وليد ومن المنتسبين إلى قبيلتي ورفله وترهونة - وبالتالي من تدرجهم الأساطير في عداد حماة القذافي ونظامه).

لست بهذا أنكر واقع القبيلة والرابطة القبلية في ليبيا ولكني أريد التنبيه إلى الأساطير التي تحاك حولها. لم يكن للعقيد المطارد و«نظامه» من حماة إلا من شرذمة قليلة من المستفيدين، واعتماده كان، بالجملة، على لفائف الميليشيات وشتيت المرتزقة من كل الأصناف ومن مختلف بقاع العالم، وبالتالي ليس من بؤساء أفريقيا الذين ينتسبون إلى دول شبيهة بنظام «الجماهيرية» من الذين أغدق عليهم ملك ملوك أفريقيا دون حساب ولا مساءلة من الشعب، وأنى للشعب الليبي ذلك طيلة العقود الأربعة الماضية. واقع القبيلة في ليبيا شديد الشبه بواقع القبيلة في دول عربية كثيرة: له اعتبار في بعض مستويات التحليل الاجتماعي، أحيانا، ولكن المحدد في التحليل السياسي يكون آخر - وهذه قضية أخرى من شأن الوقوف عندها أن يصرفنا عن موضوعنا بالجملة وعلماء الاجتماع العرب أسهبوا في القول في هذه الظاهرة وفي إلقاء الأضواء عليها.

الوهم الثاني الذي نود التنبيه إليه هو ذاك الذي يتعلق بالتناقضات الداخلية القائمة في الثورة الليبية حيث إنه لا شيء، في زعم الذين يروجون لهذا الوهم، يجمع بين الثوار سوى الهدف الظرفي الواحد القائم في الرغبة في الإطاحة بالقذافي ونظامه «الجماهيري» الكاذب. وفي عبارة أخرى (وفي استعادة للغة القاموس الماركسي) فإن التناقضات الثانوية التي تحتجب خلف التناقض الأساسي ستبرز على السطح وستدخل ليبيا الجديدة بموجب ذلك في حرب أهلية يعلم الله وحدها مداها وشدتها. والذين يروجون لهذا الطرح يعملون، بوسائل مختلفة، على التضخيم في الخلافات النظرية الموجودة فعلا بين التيارات الإسلامية في الساحة الليبية. إنهم لا ينتبهون لحقيقتين واضحتين؛ أولاهما أن وحدة الهدف الأسمى تصنع وحدة فعلية لا متوهمة، وهذا يعنى أن الأشقاء الليبيين هم الآن بصدد تقوية آصرة المواطنة والشعور بالانتماء إلى وطن واحد ظل مسروقا منهم ردحا من الزمن غير يسير. والحقيقة الثانية أن واقع هذه الاختلافات المذهبية، داخل الساحة الليبية، ليس مما تختص بها ليبيا وحدها بل إنه إحدى سمات الوجود السياسي العربي اليوم وإن كان أكثر بروزا في مصر وفي تونس. الصراع واقع قائم بيد أنه لا يتهدد ليبيا الجديدة وليس البتة عائقا يقوم في وجهها بل ربما وجب القول، عكس ذلك، إنه اختلاف من شأنه الإغناء لا الإفقار ومن شأنه كذلك، متى تمت صياغة المجال الديمقراطي السليم، أن يسهم في بناء ليبيا الجديدة الحرة. وهذه الأخيرة لن تكون (بالنظر إلى البنية الثقافية لليبيا ولمكوناتها الروحية) سوى دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية، وللحديث صلة.