أوباما ومشاركوه بين الذنب المغفور أو عظائم الأمور

TT

كان ينقص هؤلاء الذين استضافهم الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في باريس يوم الخميس 1 سبتمبر (أيلول) 2011 في مؤتمر «أصدقاء ليبيا»، مشاركة الرئيس الأميركي باراك أوباما اجتماعهم، وبذلك يكتمل مشهد «المافيا الدولية» ذات الطبعة الجديدة التي تصطاد الثروات العربية. ولكن انشغالات الرئيس الأميركي، الذي هو عميد الانقضاض على الصيد الثمين، لا تلغي حقيقة أننا كعرب ومسلمين علينا أن نعترف بأننا منذ تلك الزيارة التاريخية للرئيس أوباما إلى القاهرة وخطابه الشهير الذي بدا فيه كما لو أنه شيخ أزهري يلقي خطبة صلاة جمعة.. إنما من على منبر جامعة القاهرة، ونحن في حالة متابعة لسلوكيات هذا الرئيس، يحدونا الأمل بأن الرجل لا بد سيلتزم بما قاله في شأن تطوير العلاقة المتوازنة بين الولايات المتحدة والأمتين العربية والإسلامية، وبأن عهده لن يكون في هذا الشأن مثل عهود الذين سبقوه، وكلهم يندرج في خانة السيئ والأسوأ، عدا العهد البوشي، أبا وابنا، الذي كان الكارثة التي نعيش تداعياتها للسنة العشرين على التوالي، والمرتبطة - هذه التداعيات - بتلك المكيدة التي وقع ضحيتها الرئيس (الراحل) أنور السادات على يدي مولِّد صفقة كامب ديفيد الرئيس الأسبق جيمي كارتر.

مضت المائة يوم الأولى للولاية الأوبامية وبقينا على تفاؤلنا بأن الرجل يرتب أوراق الدور التاريخي الذي يتطلع إلى ربطه بشخصه. وبعد أسابيع من انقضاء السنة الأولى بدأت لهجة الرجل تتغير، وبالذات إزاء الموضوع الأهم الذي يعنينا وأفرحنا قوله بكل الوضوح من على منبر جامعة القاهرة، وهو المتصل بإيجاد حل متوازن للموضوع الفلسطيني، خصوصا أنه لفظ بملء الفم عبارة «دولة فلسطينية مستقلة قابلة للعيش إلى جانب دولة إسرائيل». لكن الذي حدث هو أن الرئيس أوباما بدأ، وبأساليب ملتوية وعبارات يصعب أخذها على محمل الثقة من جانبنا، يحاول التملص مما وعد به، وراح يتودد إلى «اللوبي» الإسرائيلي ويقول من الكلام ما يبعث مشاعر الصدمة في النفوس.. إلى أن كانت ألاعيب مندوبته في الأمم المتحدة و«مبايعة» الكونغرس للذئب الصهيوني بنيامين نتنياهو يوم ألقى «موعظة» تنقصها الذمة والضمير والموضوعية من على منبر الكونغرس، وكان مدعاة للخجل أن هذا الذئب حظي بالتصفيق والتهليل من الذين هم الأداة الفاعلة في القرار الأميركي.

لم يقتصر الأمر لدى الرئيس أوباما على أن ينسى وهو في البيت الأبيض ما سبق أن وعد به. بل نجده يمطر أصدقاءه أهل «السلطة الفلسطينية» بالنصيحة تلو الأخرى أن لا يطرحوا موضوع العضوية خلال الدورة العادية للجمعية العمومية للأمم المتحدة. ورغم الإقبال الملحوظ من أكثرية دول العالم، خاصة دول أميركا الجنوبية، على الاعتراف بـ«دولة فلسطينية» والاقتراع لمصلحة اكتساب فلسطين حق العضوية في الأمم المتحدة، فإن هذه الفرصة مهددة ومن جانب إدارة الرئيس أوباما؛ منه شخصيا أو نتيجة ضغوط لا فرق، وذلك لأن استعمال مندوبة أميركا «الفيتو» عند التصويت لن يمكّن الفلسطينيين من نيل فرصتهم التاريخية. والذي يرجح احتمال استعمال «الفيتو» أن الرئيس أوباما شخصيا تسبب لنا في صدمة مضافة عندما قال في خطاب له استهدف منه إرضاء الاحتلال الإسرائيلي في مايو (أيار) الماضي إن «جهود الفلسطينيين لنزع الشرعية عن إسرائيل ستنتهي إلى الفشل، فالأعمال الرمزية لعزل إسرائيل في الأمم المتحدة في الدورة العادية في سبتمبر 2011 لن تخلق دولة مستقلة»! يالهذا التذبذب.. يالبشاعة هذه المراوغة.

على مدى سنتين أوباميتين لم تطلب الإدارة الأميركية أمرا من الفلسطينيين مباشرة من السلطة، وبالواسطة من قطر لما يخص حماس، إلا تم تنفيذه.. وإن كانت هنالك بعض المواقف اللفظية من رموز في جناح السلطة في رام الله أو رموز في جناح «حكومة حماس» في غزة، وهي مواقف تستهدف تفادي حالة إحباط تصيب الجمع الفلسطيني في الجانبين. وبعد الذي حدث في سوريا، ارتأى إخواننا جماعة حماس التخفيف من وطأتهم على الحكم السوري أو خشية أن ينهي هذا الحكم بنفسه الاستضافة الحمساوية لظروف ضاغطة كتلك التي أوجبت إنهاء استضافة الزعيم الكردي عبد الله أوجلان في زمن الرئيس (الراحل) الأسد الأب، ويمموا وجوههم شطر المحروسة (مصر) تتقبلهم كمتفهمين وليس غير ذلك، فضلا عن أن لهم في مصر القوة التي استيقظت وتتمثل في جماعة الإخوان المسلمين، مع ملاحظة أن موقف الجماعة لا يتقاطع مع موقف الحكم المصري بصيغته الراهنة الذي لا يريد تفجيرا للموقف مع إسرائيل ومن أجل ذلك يتقيد بالمعاهدة المبرمة معها. وفي ظل أجواء العلاقة المستجدة بين حماس و«مصر غير حسني مبارك» يمكن للرئيس أوباما أن يكون مقداما أكثر ويثبت أمام الملأ أنه كان عند كلمته. وحتى إذا كان فك أسر الجندي الإسرائيلي شاليط يساعده في مسألة التحرك، فإن مصر «تمون»، أو باتت كذلك، على حركة حماس، ويتم الإفراج عن هذه الرهينة – الوديعة.

إننا حاليا في مرحلة العد العكسي لتلك اللحظة التي يتم فيها اختبار حقيقة نوايا إدارة الرئيس أوباما وهل سينفذ ما سبق أن قاله في خطابه من على منبر جامعة القاهرة بعد أيام من توليه الرئاسة وعززه في خطاب له قبل ثلاثة أشهر وبضعة أيام (الخميس 19 مايو 2011) بالقول الذي لا لبس في تفسير مفرداته: «إننا نعتقد أن حدود إسرائيل وفلسطين يجب أن تقوم على أساس خطوط العام 1967 مع تبادل متفق عليه في الأراضي بحيث يتم إنشاء حدود معترف بها للدولتين؛ إذ يجب أن يكون للشعب الفلسطيني الحق في حكم نفسه بنفسه ويحقق كامل إمكاناته في دولة ذات سيادة ومتصلة. إن الموقف الفلسطيني تجاه هذا المبدأ يجب أن لا يكون فقط بالموافقة، بل يجب أن يكون لدينا موقف رسمي يطلب فيه من الحكومة الإسرائيلية ممثلة في رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو القبول بهذا المبدأ، أي مبدأ الدولتين على حدود 1967 مع تبادل متفق عليه..».

هذا الكلام للرئيس أوباما يعني أن القدس الشرقية ضمن الدولة التي يتحدث عنها الرئيس الأميركي، ويعني استطرادا أن معزوفة «القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل» يجب أن تتوقف. ومعنى كلام أوباما أيضا أن الدولة الفلسطينية كما يراها وكما يرتضيها الشعب الفلسطيني وكما تعزز الرضا المبادرة التي طرحها الملك عبد الله بن عبد العزيز في القمة الدورية في بيروت 28 - 29 مارس 2002 (وكان ما زال وليا للعهد)، من شأنها أن تحقق السلامة لإسرائيل والسلم في المنطقة، وبذلك لا يعود الوضع على ما هو عليه دائما على شفير الانفجار.

وإلى ذلك، وهذا الأهم، فإن قيام الدولة الفلسطينية هو الإقرار غير القابل للتعديل من جانب الفلسطينيين بوجود إسرائيل؛ بل إنها الدعامة القوية لـ«وعد بلفور» الذي بسببه قامت إسرائيل، مع ملاحظة أن الوعد نفسه الذي جاء في رسالة وجهها اللورد آرثر بلفور وزير خارجية بريطانيا بتاريخ 2 نوفمبر (تشرين الثاني) 1917 إلى اللورد جيمس روتشيلد الذي كان زمنذاك زعيم الحركة الصهيونية، يلحظ، وبتعبير رمزي، وجود دولة فلسطينية، وهذا يتمثل في عبارة «إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بالعطف إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وسوف تبذل قصارى جهدها لتسهيل تحقيق هذا الهدف. ويجب أن يكون مفهوما أن هذا الإعلان لا يمثل تحيزا ضد الحقوق المدنية والدينية لطوائف غير يهودية موجودة في فلسطين..». والقول إن الوعد يلحظ، وإن بتعبير رمزي، وجود دولة فلسطينية، وإلا فما معنى الجزء الثاني من العبارة المتعلقة باعتراف الحقوق لـ«طوائف غير يهودية موجودة في فلسطين»، أي المسلمين والمسيحيين، فضلا عن أن نص الوعد يتضمن أن يكون هنالك وطن قومي لليهود (أي دولة) في فلسطين، ولم يقل أن «تكون فلسطين وطنا قوميا لليهود». وهذه مفردات برع فيها السياسيون والدبلوماسيون الإنجليز ومن نوع براعة اللورد كارادون مندوب بريطانيا لدى الأمم المتحدة الذي صاغ قرار مجلس الأمن 242 تاركا بكلمة واحدة ثغرة استندت إليها إسرائيل في مماطلتها في تنفيذ القرار الذي تشاء الصدف أن يصدر هو الآخر يوم 22 نوفمبر 1967 أي بعد نصف قرن وعشرين يوما من إعلان وعد بلفور (2 نوفمبر 1917). والكلمة الثغرة هي حول الانسحاب من «أراض» بدل «الأراضي» وإن كانت هنالك اجتهادات لفظية مثل القول إن الكلمة بالنص الإنكليزي غيرها بالنص الفرنسي حيث ترد «الأراضي» ومثل قول اللورد كارادون زمنذاك لوزير خارجية مصر (الراحل) محمود رياض إن الفقرة الأولى من القرار تشير صراحة إلى «عدم جواز ضم الأراضي بواسطة الحرب». والذي يثير الاستهجان هو أن استهانة إسرائيل بروحية «وعد بلفور» وصياغة قرار مجلس الأمن «242»، فلا تأخذ بروحية الوعد ولا بروحية الصياغة، لا تلقى الموقف الحازم من جانب جيل «أحفاد» بلفور وجيل «أبناء» كارادون؛ أي أهل الحكم البريطاني خلال العقود الأربعة المتواصلة، خاصة من مارغريت ثاتشر الحديدية، إلى ديفيد كاميرون المتراخي، وبينهما توني بلير المتلاعب، الأمر الذي يجعلنا نضعهم إلى جانب إدارة الرئيس أوباما أمام الاختبار هذا الشهر عندما يتقدم رئيس السلطة الوطنية محمود عباس شخصيا أو ينوب عنه وفد مصغر يمثل الأمتين وربما ممثل عن القارة الأميركية الجنوبية ضمن الوفد، بطلب عضوية دولة فلسطين على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. فإذا تصرف هذان القطبان الدوليان تحديدا ومعهما الرئيس نيكولا ساركوزي تصرف من يهمهم مغفرة الأمتين لذنوب دولهم ودول أخرى تدور في فلك رعايتها للعدوان الإسرائيلي، فإن شعوب الأمتين ستتجاوز، وإن بغصة، ما يمارسونه من احتلالات للإرادات في بعض دول الثراء العربي وتقويض لما تم إنجازه على مدى أربعة عقود في مجالات البنية التحتية والأرضية والجوية، وذلك بغرض تجفيف ما يمكن تجفيفه من الثروات العربية. وتلك ترضية معنوية على أساس أن القبول بالدولة الفلسطينية يشكل خطوة أولى على طريق انتقال الشقيق الفلسطيني من ذل العيش، وكذلك من استعماله ورقة في الصراعات، إلى العيش الكريم، فضلا عن أنه يضع نهاية لظاهرة استعمال فلسطين ورقة للبقاء طويلا في السلطة أو للتزعم على نحو «مكرمة» الأخ التركي المتأخرة بضعة عقود والمتمثلة في «الطرد» الاستعراضي، مزايدة على مصر تحديدا ومحاولة اصطفاف مع إيران، لسفير إسرائيل لأن دولته لم تعتذر وليس لأنها ليست عدوة الأمتين. وإذا كان المأمول من الرئيس أوباما وشركائه لن يتحقق، ويقفون ولو مرة واحدة مع المنطق والحق طمعا منهم في تجديد الولاية الرئاسية المدعومة من «اللوبيات» اليهودية الجاثمة على صدور الشعوب الأميركية والأوروبية، على حساب الاستهانة بالأمتين، فإن البديل للذنب المغفور سيكون على الأرجح عظائم الأمور.